الأبعاد الرمزية بالشريط المصور
من نافلة القول أن “الفن التاسع” أو “فن القصص المصور”، الشهير بفن “الكوميكس”، فنٌ وافد على الثقافة العربية، صحيح أن له بذورا شهدتها الثقافة العربية من خلال فناني الكاريكاتير والرسم، وبعض أعمال كبار الفنانين من رسامي الكاريكاتير المصريين منذ النصف الأول من القرن الماضي، إلا أن الفن بمفهومه ونشأته وملامحه الخاصة “فن غربي” بامتياز، نشأ وازدهر في أوروبا وأميركا أولاً ثم في بلدان آسيا وتحديداً اليابان ومنها إلى بلاد العالم كلها بعد ذلك، مواكبا تطورات الحياة المدنية الحديثة في الغرب، وهو من هذه الزاوية يمكن اعتباره بحق “فناً مدينياً وحداثياً” بامتياز.
وإذا كان فن «الكوميكس» قد ارتبط في بداياته الباكرة بفن القصة المصورة الموجهة للأطفال بمختلف أعمارهم وفئاتهم العمرية، يقوم بإبداعها فنانون متخصصون في هذا المجال الذي يفرض حضوره الخاص في الصفحات الموجهة للأطفال سواء المطبوعة أو المتحركة في أفلام الكارتون “الأنيمشين”، فإن الكتب المصورة الموجهة للكبار قد انتشرت وغزت أرفف المكتبات في فرنسا تحت اسم “BD” وفي الولايات المتحدة الأميركية انتشرت تحت اسم “Comic Books”، أما في اليابان فقد حازت تسميتها «Mangas» شهرة وذيوعا فاق النظير، بسبب رواجها الكبير في اليابان وما حواليها، وتجاوز نجاحها وانتشارها هذا القطاع الجغرافي إلى معظم بلدان العالم، وحققت مبيعات فاقت الخيال وتخطت في شهرتها ودرجة الإقبال عليها الفنون الراسخة والأجناس الأدبية بأنواعها بشكل مثير، وهو ما أدى إلى تطورها بشكل مذهل وارتقاء صناعتها إلى درجة من الاحتراف والرسوخ والتمكن.
فن القصة المصورة أو فن الكوميكس، وهو واحد من أشهر تعريفاتها وأكثرها ذيوعاً، هو ” فن أدبي مميز يعتمد على السرد القصصي بواسطة الكوادر المصورة “
فيما زاد البعض التعريف السابق تفصيلاً، إذ عرّف الفنان (ألدريك مكرم) القصة المصورة بأنها “فن يجمع بين الأدب والفن التشكيلي، وهي عبارة عن فيلم سينمائي على الورق وهي فن يخاطب جميع الأعمار، وليس موجها للأطفال بالذات يطلق على القصة المصورة لقب “الفن التاسع”.
وقدم سعيد علوش في كتابه الفن التاسع :نهارات الحكي في شريط القصة المصورة نبذة عن تاريخ شريط القصة المصورة وخصوصياته والتطورات التي لحقته في تركيب الصور والإطارات واختيار المواضيع، وكيفية قراءة هذه الأشرطة المصورة التي تحقق مبيعات مهمة تفوق مبيعات الكتب الأدبية مثلا، حيث نجد في فرنسا ما يفوق 600 ألبوم تطبع من الواحد منه 100 ألف نسخة، ثم ينتقل الكاتب إلى استعراض مترجمات الفن التاسع إلى اللغة العربية ومن أبرزها: تانتان، سوبرمان «الرجل الخارق»، سبيدرمان «الرجل العنكبوت»، جي. آي. جو، ميكي ماوس، توم وجيري، باباي، باكس باني، بوكيمون وأشرطة أخرى كثيرة، ثم يتحدث عن إرهاصات الفن التاسع في العالم العربي الذي ظهرت جذوره الأولى في تركيا الإسلامية ومع ازدهار التصوير الشعبي بمصر، الذي انخرط أصحابه في تجسيد رسومات لتثبيت العقيدة الإسلامية أو تعزيز كتب معينة بالصور.
أما المغرب فقد جرب الفن التاسع مع الكتاب المدرسي الفرنسي ثم مع تجربة وزارة الثقافة المغربية في بداية الثمانينات من القرن الماضي من خلال أعداد يتيمة من مجلة «الحدائق»، وبعد ذلك ظهرت تجربتان سياسيتان في مجال الفن التاسع بالمغرب: الأولى عن المسيرة الخضراء لعلي الصقلي والثانية عن الحسن الثاني ، لتظهر في ما بعد تجارب تاريخية مع الفنان حميد السملالي الذي وضع حكايات عن تاريخ المغرب تجسد وعيا وطنيا بالموروث الثقافي والحضاري المغربي والعربي الإسلامي، وتجارب سياسية أخرى مثل كتاب عبد العزيز مريد عن سنوات الاعتقال والسجن بالمغرب في شريط مصور بعنوان “إننا نجوع الفئران “.
ومنذ فترة صدرت عن وزارة الثقافة المغربية الشريط المصور تحت الصفر الجزء الأول المخطوف للمبدع زكرياء التمالح، ضمن موجات هادئة، لكنها متتابعة ومتأنية من انتشار وذيوع فن الكوميكس أو الفن التاسع في الثقافة المغربية، ليسد فراغا كبيراً في المكتبة المغربية في هذه النوعية من الكتب، ويعد هذا العمل ( المخطوف ) باكورة أعمال الفنان زكرياء التمالح، التي تندرج ضمن سلسلة ” تحت الصفر ” الممتدة إلى ثمانية أجزاء، كما سيصدر قريبا للمبدع زكرياء أعمال مختلفة من حيث التناول والأسلوب، نذكر منها: كتاب إغراء الأعالي مع محمد سعيد الريحاني.
سأحاول من خلال هذه القراءة المتواضعة أن أكشف عن الأبعاد الرمزية التي تضمنها الشريط المصور تحت الصفر في جزئه الأول المخطوف،ومن البديهي أن أي منجز كيفما كان نوعه وجنسه عندما يخرج للوجود يصبح ملكا للجمهور يقرؤه ويفهمه ويؤوله وفق ثقافته وذائقته الفنية وأيضا وفق الشروط التاريخية والسياقات الثقافية التي يرى فيها العمل النور،ومما وجب الإشارة إليه في هذا المقام أن هذا العمل صدر بعد ما اصطلح على تسميته الربيع العربي الذي هبت نسائمه بشكل من الأشكال على المغرب وأكيد أن يكون الفن التاسع ومن خلاله كاتبه قد تأثر بهذا المعطى التاريخي والسياسي فهل يمكن أن نلمس له وجها ثقافيا؟
تعد صورة الغلاف عتبة نطل من خلالها على عالم النص الأدبي ومؤشرا يساعدنا في تحديد نوعه وتلمس موضوعاته،وبما أننا إزاء شريط مصور يدخل ضمن ما اصطلح على تسميته بالفن التاسع أو الكوميكس، فالمبدع زكرياء التمالح لم يدخر جهدا في توظيف كل العناصر المكونة للغلاف من خلال الصور والألوان والخطوط والعبارات الدالة والموحية.
يتضمن الغلاف صورة طفل بما يحمله في المتخيل الجماعي من براءة وصفاء وأمل، لكن التمعن جيدا في ملامح هذا الطفل نجد أنفسنا أمام طفل من طينة خاصة ونوع متميز، من خلال نظرته التي تحمل لمحة حزينة وطريقة تسريحة شعره وقبعته التي تميزه عن أقرانه،والتي لا نعلم هل يتقي بها حر الشمس أم سهام المجتمع؟
إلى جانب الطفل نجد كلبا مصابا في إحدى عينيه تنزف دما جراء اعتداء أو حادث يثير بذلك تعاطف الجمهور،أما بخصوص العنوان فقد كتب بلون أحمر بارز “تحت الصفر” العبارة التي تشي بالدونية والتهميش والاحتقار والتغييب من قبل المجتمع،و عنوان فرعي “المخطوف” لهذا الجزء الأول مما يؤكد على أننا سنكون أمام سلسلة أو مسار عبر أجزاء،والألوان المهيمنة نجد اللون الأحمر بما يحمله من أبعاد رمزية حسب السياق طبعا (المقاومة، القتل، الاضطهاد، الاغتصاب…..،) والبني( الكآبة والحزن ….).
مما يجعلنا نطرح فرضية أننا إزاء شريط مصور سينقل لنا تجربة إنسانية لطفل يعاني الضياع والغربة والإحساس بالدونية والتهميش تعرض لاختطاف رمزي أكثر منه مادي.
في الصفحة الثانية نجد صورة طفل بنظرات حادة وتقاسيم وجه بارزة وشعاع منبعث من وجهه فيما ينبئ بالبعد العجائبي والخرافي لطفل مغامر داهية خارق، يعرف متى يظهر وأين يختفي وكيف يفلت من قبضة مطارديه،مما يضعنا أمام صورتين الأولى تحمل دلالة الغربة والضياع والثانية تنبئ بهوية فن الكوميكس.
إن قراءة أولية لهذا المتن الحكائي تجعلنا نقف على أهم تمفصلاته الكبرى وطبيعة بنيته الحكائية السردية،التي تنطلق بواقعة اختطاف طفل صغير بعد قتل أبيه الفنان التشكيلي وتشغيله من قبل أفراد العصابة في مهنة التسول، لنكتشف مع هذا الطفل المتسول والمتمرد والمغامر ذواتنا من خلال عدد من المقاطع السردية والأحداث المتتابعة(اعتداء أطفال شوارع على كلب ورميه بالحجارة، رغبته في شراء كرة للقدم- كشفه عن العلاقات العاطفية- تعرضه للاعتداء- بحثه عن مأوى يبيت فيه-هروبه من العصابة التي تشغله-تعرضه للاختطاف مرة ثانية).
إن بنية السرد هنا تسير وفق إيقاع دائري تنطلق من واقعة الاختطاف لتعود إليه ليكشف بذلك الكاتب عن تجربة نفسية وإنسانية لطفل يعاني إشكالات مركبة ومتداخلة :فهو يعاني إشكالا وجوديا حول الغاية من وجوده، وإشكالا مجتمعيا من خلال صور مختلفة من الغربة والدونية مع ما يصحبهما من استغلال واضطهاد.
ففي الصفحة الرابعة عشرة من الشريط المصور مثلا ينقلنا الكاتب لجو الغربة في المدينة كواقعة الفشل في شراء كرة القدم، ليبين بذلك عن قهر قوة المال وعدم اعتراف القيم المادية للمجتمع بحقوق الطفل ويعلن هو الآخر تمرده على سلطة المال من خلال تمزيق ورقة نقدية لم تحقق له ما يصبو إليه،وواقعة اعتداء أطفال الشوارع على كلب هذا الحدث يكشف عن عنف خفي يعانيه هؤلاء الأطفال وجدوا في الاعتداء على الكلب تفريغا لمكبوتات دفينة في أنفسهم.
يستعمل السارد تقنية الاسترجاع موظفا الألوان الموحية والمساعدة ففي الصفحة (15) يكشف أن الطفل المختطف ابن فنان تشكيلي تعرض للقتل، هذا القتل يحمل دلالة رمزية أكثر منه مادي إنه قتل رمزي لفنان تشكيلي من قبل مجتمع لا ينصت لهمسات الفنان ولا ينظر لألوان ريشته بحس مرهف ووجدان فياض وعقل منفتح.
هذا الشريط المصور ومن خلال جولات الطفل بالمدينة كفضاء عام يتيح التقاء الأفراد فيما بينهم ويكشف لنا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية والثقافية التي تميزه (خلفية الصور تضمنت لعدد من المعالم مثلا المسجد،المقهى ،السينما،الصومعة)، يكشف عن وضعية المرأة والاستغلال البشع الذي تتعرض له من قبل آلة مادية لاترى في المرأة إلا وسيلة لزيادة الربح وجلب الزبناء، دون اعتبار لكينونتها وآدميتها وخصوصياتها كامرأة وإنسانة،ويكشف أيضا عن زيف العلاقات الاجتماعية والعاطفية بين الرجل والمرأة من خلال حديث يدور بين امرأة ورجل وسط المقهى(الصفحة 38)
وظف المبدع زكرياء التمالح بعض التقنيات والخصائص الفنية المميزة لفن الكوميكس سواء من خلال اختيار زاوية الصورة، فقد نوع بين هذه الزوايا فجاءت من الأمام ومن فوق ومن تحت، ولا يخفى أن هذه الاختيارات لم تكن اعتباطية وإنما دالة يخدم من خلالها المتن الحكائي فمثلا تؤخذ زاوية الصورة للمجرمين من تحت لتبرز قوتهم وسطوتهم ويتفنن باعتباره تشكيليا في رسم أشكالهم وتقاسيم وجوههم بشكل يتوافق ومضامين أفعالهم التي تتسم بالبشاعة والقبح ،أيضا نجد أشكال بالونات الحوار تختلف وتتمايز بحسب طبيعة الحورات ومضامينها فتكون مثلا حادة في لحظة تفكير ومشعة في لحظة خطرت ببال الشخصية فكرة ما .
استعمل الكاتب لغة واصفة معبرة عن المستوى الثقافي لشخوصه وطبيعتهم السيكولوجية وميولاتهم النفسية،هذه اللغة أيضا تمتاح من قاموس فن الكوميكس من خلال التعبير عن أصوات حجارة أو الارتطام بالزجاج.
غير أن كل هذه الميزات لا تمنعنا من القول أن الكاتب سقط أحيانا في فخ الرسائل والدعوات المباشرة والصريحة كما هو الحال عندما امتعض من طريقة استغلال المرأة في سوق الشغل،أيضا بعض المقاطع السردية لم تأت متوافقة مع بنية الحكي ولم تخدم بذلك البرنامج السردي كما نجد بالصفحة (37) عندما كشف عن مناسبة تعرفه على الطفل المخطوف، وسقط أيضا في فخ الذاتية والكشف عن هوية الكاتب المبدع بشكل لا يتماشى وخصوصية الفن التاسع عندما وقع اسمه على لوحة سيارة أجرة لنقل الركاب .
تأسيسا على ما سبق نستطيع القول أن هذا الشريط المصور يحفل بالعديد من الأبعاد الرمزية سواء في شخوصه أو أحداثه أو العلاقة بين قواه الفاعلة أو من حيث فضاء أحداثه والمؤسسات التي أثت هذا الفضاء، ليعلن بذلك عن ميلاد فنان ومبدع ينحث اسمه في صمت في عالم الفن التاسع، وليجعلنا نطمئن ولو نسبيا لمستقبل هذا الفن الذي انتقل فيه المغاربة من أعمال الترجمة إلى الإبداع واختلاق شخصيات ورموز وأيقونات، تعبر عن هوية الشعب المغربي وعن قضاياه ومعاناته، لينتقل بذلك فنانو الكومكس من الغايات التعليمية والترفيهية إلى غايات اجتماعية وإنسانية، تجعلهم ينصتون إلى ذواتهم ومن خلالها يعبرون عن تجارب إنسانية تتسم بالعمق والشمولية.
المراجع:
– تحت الصفر الجزء الأول الخطوف/زكرياء التمالح/وزارة الثقافة 2012م.
– الفن التاسع :نهارات الحكي في شريط القصة المصورة / سعيد علوش/ مطبعة أبي رقراق الرباط 2003م.