للمدونة الشرف في استضافتكم دكتور مصطفى يعلى، وإذ نرحب بكم في هذه الجلسة الحوارية، التي نتوقع أن تكون مفيدة ومثمرة؛ نود أن نبتدئ حوارنا معكم بسؤال عن فضاء نشأتكم الأولى: تفتخرون دائما أنكم من أبناء القصر الكبير، وبالضبط من حي النيارين. ترى هل كان لهذا الفضاء أثر ما في توجيهكم نحو الكتابة القصصية؟ وماذا علق بذهنكم من ذكريات حول نشأتكم بهذا الحي، قبل أن تغادروه إلى العرائش، ثم فاس، لتستقروا بالقنيطرة آخر المطاف؟
ممنون لكرم استضافتي في فضاء هذه المدونة المتميزة. أما بالنسبة لسؤالكم، فلا أجد كلاما أبدأ به جوابي، أبلغ من هذا البيت الشهير، للشاعر العباسي أبي تمام:
كمْ منزل في الأرضِ يألفه الفتى وحـنـيـنـُه أبـداً لأولِ مـنـزلِ
لقد غادرت القصر الكبير مبكرا للدراسة في الباكالوريا بالعرائش، والتحقت بكلية الآداب الوحيدة في المغرب يومئذ، فرع فاس. وحين حصلت على الإجازة في الأدب العربي، عينت أستاذا للسلك الثاني بإحدى ثانويات القنيطرة، ثم المركز التربوي الجهوي بها، فكلية الآداب بالمحمدية، لأعود إلى القنيطرة نهائيا منذ انتقالي للعمل بكلية آدابها سنة 1989.
وبهذا تكون الظروف، هي التي أبعدتني عن مدينتي الحبيبة. ويوم ذهبت إلى العرائش، ما كان يدور في خلدي، أنني أخرج نهائيا من القصر. ومع ذلك، ظللت في السنوات الأولى، أزور القصر الكبير أسبوعيا، لأقضي أويقات جميلة، أيام الجمعة والسبت والأحد، مع أصدقائي محمد العربي العسري ومحمد الخمار وحسن اطريبق في العرائش، أو معهم ومع غيرهم ب (الكازينو) النادي المغربي راهنا في القصر الكبير.
إن هذه المدينة السحرية، وبالضبط حي النيارين، وعلى وجه التخصيص درب العسري الضيق الملتوي المغلق، حيث توجد دارنا ذات الطابع الأندلسي المغربي بحجراتها ذات الهندسة الموحدية: طول وضيق في العرض مفرطان وسقف شاهق؛ فضاءات لا تزال موشومة في الذاكرة، حية دوما كما لو لم أغادرها منذ عقود. ففيها تشبعت بروح الحياة الشعبية الأصيلة، بما تزخر به من علائق اجتماعية، وطقوس دينية وفولكلورية، وتابوات صارمة، إلى جانب بؤس وحرمان، ما كانا يفسدان للتضامن بين الناس قضية.
إن حي النيارين قبيل وبعيد الاستقلال، كان مزدهرا بحركيته، بنظافته، بدكاكينه المتراصة على الجانبين، وداليته التي تغطيه على طوله، وروائح النعناع والفواكه البلدية تعبق من السلع المعروضة بنظام مغر. بكلمة واحدة، كان حي النيارين بمثابة خان الخليلي القصري. وكان شريانا رابطا بين السويقة والمرس، أي بين الحيين الكبيرين اللذين كانا يشطران المدينة شطرين ضخمين: باب الواد والشريعة. وكانت تسكنه أسر معروفة، مثل العسري وعدّة وقايد الطابور والحساني وبن خليفة وعمور وبربيع والحمدوني وبناني والغرابلي وقاسم، وغيرها من الأسر الكريمة، فضلا عن وجود دار أسكن فيها الفدائيون الفارون من المنطقة السلطانية إلى المنطقة الخليفية. التي كان القصر الكبير يعتبر بوابتها الرئيسية.
وكما كررت مرارا، لقد تلقيت وأنا طفل صغير بهذا الحي ذي النكهة الشرقية، متنا حكائيا شعبيا من أروع ما يمتع ويفيد، وينقل خبرات الأجيال، ويوسع الخيال ويسمو به. فقد كانت عادة رواية النساء للحكايات الشيقة، ما تزال مستفحلة في المجتمع القصري كما المغربي. وكانت ظاهرة الحلقة في للاّ العالية، وراء السينما العريانة، مسرحا حقيقيا لرواية وتشخيص الأزليات والعنتريات والحمزيات وقصص ألف ليلة وليلة وغيرها. وكنت أخف إليها بشوق عارم كل عصر فور الخروج من الكتّاب.
وهكذا يكون نمط الحياة بالنيارين، والولع بالقصص الشعبي، فضلا عن المكانة الاعتبارية التي كان يحظى بها المثقفون في المدينة، من بين الحوافز الأساس في توجيه بوصلة اهتمامي، نحو إدمان القراءة أولا، ثم الكتابة ثانيا.
تعتبرون هرما من أهرام التدريس بكلية الآداب والعلوم الانسانية التابعة لجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وكثيرا ما أنزلتم طلبتكم منزلة الأبناء، وقدمتم لهم مساعدات مختلفة، وتوجيهات علمية جمة، بكرم وسخاء، كما يحكي الكثيرون من طلبتكم. ما رأيكم في أساتذة جامعيين جعلوا التجارة بالعلم وبالكتاب أساس العلاقة التي تربط الأستاذ الجامعي بالطالب في الجامعة؟
كثير علي وصف هرم. فأنا باعتباري أستاذا باحثا ومؤطرا، كنت فقط أقوم بواجبي، بنفس الجدية التي اكتسبناها من تربيتنا على قيم نبيلة، يحز في النفس أنها شرعت في الذبول، لتسود مكانها قيم منحطة، فرضها تسونامي الاستهلاك والأنانية والانتهازية. كما أنني وبضعة أصدقاء بالكلية كنا نعامل طلبتنا، خصوصا في الماستر والدكتوراه، معاملة الأب لأبنائه، مع الرغبة الصادقة في أن يتجاوزونا علما وعملا. لهذا ما كنا نلقنهم دروسا أو محاضرات فقط، بل كنا نصنع شخصياتهم، لتستطيع مواجهة الحياة، والاضطلاع بالمسؤولية في العمل على الوجه الأكمل. وأكتفي في هذا السياق، بالإشارة إلى موقف واحد في تعاملنا مع طلبتنا، ويتمثل في كوننا كنا نرحّل مكتباتنا إلى طلبتنا، نظرا لفقر مكتبة الكلية، ولانعدام القدرة الشرائية لديهم.
أما الأساتذة التجار وما أكثرهم في كل مستويات التربية والتعليم، فهم يدخلون ضمن الموجة الثانية، من تسونامي الاستهلاك والأنانية والانتهازية المشار إليه سابقا. ففي اعتقادي أنهم ضلوا سبيلهم إلى الجامعة، وغيرها من المؤسسات التعليمية. وكان عليهم أن يتوجهوا منذ البداية إلى التجارة الحرة، حيث يصبحون من كبار أغنياء هذا الوطن الأمين. خصوصا وأن منهم من ليس لديه وعي بأنه أستاذ باحث أو مرب، قطعا.
لا تدعي القصة القصيرة أي اكتمال، وهي مفتوحة دوما على التجريب والتطوير والابتكار، تماما مثل أختها الكبرى السباقة إلى هذه الخاصية، نعني الرواية. برأيكم، أي تطور حققته القصة القصيرة المغربية في وقتنا الحاضر؟ وهل صب هذا التغيير في الاتجاه الذي يخدم هذا الفن الأدبي أم العكس؟
سؤال مهم في هذه المرحلة من تطور القصة القصيرة المغربية. فلا شك أن القصة القصيرة بسبب طبيعتها الزئبقية، لا تستقر على حال. وتتأكد حقيقة هذه الملاحظة، بمراجعة الخط البياني لتطورها منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى الآن. فشكل كتابتها عند (إدجار آلان بو Edgar Allan Poe – 1809 ـ 1849) و(أنطون تشيخوف Anton Chekhov 1860- 1904) و(جي دي موبسان Guy de Maupassant 1850 1893 -) و(محمود تيمور 1894 ـ 1973)؛ ليس هو نفس شكل كتابتها لدى كل من (أو هنري O. Henry 1862 ـ 1910)، أو(( فرانز كافكا Franz Kafka 1883 ـ 1924) أو إرنست همنغواي Ernest Hemingway 1899 ـ 1961)، أو (إيتالو كالفينوItalo Calvino 1923 ـ 1985)، أو (خورخي لويس بورخيس Jorge Luis Borges 1899 ـ 1986) أو (خوليو كورتزار Julio Cortázar 1914ـ 1984) أو (عبد الرحمن مجيد الربيعي1939) أو (إبراهيم أصلان1935 ـ 2012) أو (جمال الغيطاني1945).
كذلك الأمر بالنسبة للقصة القصيرة المغربية. فقد قطعت أشواطا تأسيسية خصبة قبل الاستقلال، ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، مع أمثال محمد حصار وعلال الجامعي وعبد الرحمن الفاسي وعبد الله إبراهيم ومليكة الفاسي وأحمد بناني وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب وأحمد عبد السلام البقالي ومحمد الخضر الريسوني. واللائحة طويلة جدا، مما يدل على مدى ولع الكتاب المغاربة في المرحلة، بالوافد الجديد القصة القصيرة. ويعني القول بمرحلة التأسيس حتما، كتابة قصصية نوعية. فهي سرد قصصي لا غير، تنقل خبرا أو تصف موقفا أو تحكي طرفة ما، في شكل فني بدائي مهلهل. وتكمن فضيلتها في ريادة التأسيس. وفي أحسن الأحوال تحاكي نصوصا لكتاب كلاسيكيين مرموقين من الغرب والشرق.
وفي فترة الاستقلال سكت الكثيرون بسبب التكالب على المناصب العليا، ولم يظل في الساحة من الكتاب الرواد، سوى القلة القليلة، أمثال عبد الكريم غلاب وعبد المجيد بن جلون وأحمد عبد السلام البقالي ومحمد الخضر الريسوني.
لكن الروح عادت إلى القصة القصيرة المغربية بنفس جديد، وأسماء شابة جديدة، أمثال محمد إبراهيم بوعلو وعبد الجبار السحيمي ومحمد زفزاف وإدريس الخوري ومبارك ربيع وغيرهم، خلال ستينيات القرن الماضي، خصوصا وأن الصراع الطبقي في المغرب كانت قد بدأت علاماته تستفحل، لتنفجر في السبعينيات عراكا إيديولوجيا حادا. وقد عبرت القصة القصيرة عن كل ذلك من خلال التزامها بموضوعات واقعية ساخنة، صارت معيارا للحكم لها أو عليها وعلى أصحابها، مع ظهور بوادر تجريب محتشم.
على أنه منذ مطلع الثمانينيات، اختلف الواقع السياسي والاجتماعي، فبدأت بعض أحزاب اليسار تغازل الحكم من أجل الظفر بنصيبها في كعكة السلطة، في حين انصرف الناس إلى النظر في مشاكلهم الخاصة بأنانية واضحة، فمالت القصة القصيرة لدى كتابها الشباب إلى التعبير عن هموم الذات وتقوقعها، متوسلة بمختلف أشكال التجريب.
أما راهنا، فإن القصة القصيرة المغربية، تعيش مرحلة مفصلية واضحة، بعد أن أخذت القصة القصيرة جدا، تنافسها إبداعا ونقدا وانتشارا وتلقيا. وإن كنت شخصيا أرى أن كليهما صالح للتعبير عن روح العصر، المطبوعة بالسرعة الشديدة، وهيمنة التيكنولوجيا، وتسونامي المدن الضخمة التي يضيع فيها الفرد. وذلك نظرا لبلاغتهما القائمة على رشاقة وقصر الجملة وشاعريتها، وانضغاط الزمكان، وشدة التكثيف، وروعة الإيحاء، وإبداعية الأشكال المتأثرة بمختلف الحقول الفنية من شعر ومسرح وسينما وموسقى وتشكيل، مما يشجع المتلقي على التهام نصوصها أين ومتى كان.
تشبعتم بالقصص الشعبي، وتدريسه بالجامعة، حتى صرتم مرجعا فيه لا يستغنى عنه وطنيا وعربيا، وتمرستم بالكتابة السردية مبكرا، ودخلت كتابتكم القصصية ضمن بلاغة السهل الممتنع، كما أنكم حققتم شبه تخصص في بحث السرد المغربي وفق ما تشهد به دراساتكم القيمة. أي أن نضج تجربتكم السردية الطويلة والنوعية، يجيز لنا أن نستفيد من تجربتكم الغنية، لهذا نسألكم: في اعتقادكم دكتور، هل من السهل أن يصير المرء كاتبا للقصة القصيرة؟
.
سؤالك ينسحب على مختلف الأجناس والأنواع الأدبية، ولا يقف فقط عند كتابة القصة القصيرة. ذلك أن الذات لا تفرض نفسها على القصة القصيرة ـ أو أي من حقول الإبداع الأخرى ـ في محاولة للوي عنقها، وإخضاعها لرغباتها. بل إن الإشكال أعقد من ذلك كثيرا.
فأولا، لا بد من أن يكون كاتبها موهوبا، وميالا سليقة إليها قراءة وكتابة. بيد أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل ينبغي ثانيا، استكمال الموهبة بالاكتساب. فكاتب القصة القصيرة الذي لا يمتلك وعيا كافيا بنظرية القصة القصيرة، ولا إلمام له بضوابطها وشروطها، من المؤكد أنه سيحتضنها بيد واحدة وليس بيدين اثنتين دافئتين. ثم إن من لا يملك من الكتاب حس الإمتاع والمؤانسة إلى جانب الفائدة من أي نوع كانت، فليغير بوصلة توجهه.
والمؤسف، أن الساحة الإبداعية المغربية، أصبحت غاصة بالطفيليين والمدعين، من الذين لا موهبة لهم، ولا يملكون وعيا نظريا ببلاغتها، كما أن نصوصهم خالية من كل متعة ومنفعة. إنما هي كتابة سردية غارقة في أخطاء اللغة، ملؤها السماجة والهلهلة، وتذكرنا ببداية القصة القصيرة في مغرب الاستعمار.
وللموضوعية نقول: إن هذه الملاحظة المؤسفة، لا تنسحب على الجميع، إذ هناك أقلام شباب مغاربة جيدة عديدة، هي التي يعول عليها في إثراء القصة القصيرة المغربية وتطويرها.
هل الطاقة الإبداعية الكامنة داخل كينونة المبدع، تحتاج دوما لمعاناة حقيقية، ولآلام داخلية تجاه محفزات الواقع المستفزة، كي تتفجر وتثمر؟ فماذا عن تجربتكم الخاصة مع هذه المعادلة؟.
كأني بك تثيرين إشكالا نقديا، طالما أجج نقاشات مطولة بين الأدباء والنقاد، ألا وهو معيار الصدق الفني، للحكم على النصوص الإبداعية. فبعيدا عن تبسيط هذا المعيار، بربطه سلوكيا إلى التوجه الأخلاقي والوعظي المبيت، عبر ثنائية الصدق والكذب، مع تجاهل مقصود أو غير مقصود لطبيعة الخطاب الإبداعي؛ أؤكد أن تقمص الإحداثيات الواقعية، واحتضانها انفعاليا، ولمس النبض المشترك إنسانيا، ومعاناة وجع المخاض الإبداعي، هي حالات ضرورية للمبدع عموما، ولا اعتبار هنا للتعاطي مع التجربة الواقعية بحيادية وبرودة أعصاب، وكأن الأمر لا يهم المبدع أو يمسه. كما لا يعني هذا أن المبدع يجب أن يمر بالتجربة شخصيا لكي يعبر عنها. وإلا كان على من اختار موضوعا ، عن معاناة أهل الإسكيمو مثلا مع الثلوج، أن يرحل إليهم، ويعيش بين ظهرانيهم زمنا، من أجل أن يستوعب حقيقة التجربة، فيكتب عنها.
أما عن تجربتي الخاصة في الموضوع، فيمكنني القول بأنني قد تعودت منذ البداية، ألا أكتب عن حادث لم أنفعل به وجدانيا، ولا كنت أجري وراء الموضوعات المثيرة الساخنة المغرية، بل إنها هي التي كانت تفرض جاذبيتها علي. إذ لم أكتب سوى عن موضوعات مارست تأثيرها على كياني، فعاشت معي زمن المخاض المطول، وفي كل مكان، ثم تشكلت في الذاكرة جنينا مكتملا، وعندها كانت تخرج إلى الوجود بأمشاج ملائمة تليق بها.
في مسار تجربتكم القصصية، كانت قصة ” سأبدأ من الصفر ” أول عمل قصصي نشرتموه وأنتم طالب جامعي، حيث كان ذلك سنة 1966 . فهل بدأ مصطفى يعلى من الصفر حقا ؟.
لعل هذا السؤال يرتبط بسؤال سابق، بمعنى من المعاني، بدأت تجربتي الخاصة من الصفر حقا، كما يدل عنوان قصتي القصيرة ( سأبدأ من الصفر)، التي نشرتها بالملحق الثقافي لجريدة الأنباء، يوم كان مديرها الشاعر محمد الطنجاوي، وأنا ما أزال بعد في السنة الأولى بالجامعة، سنة 1966. إذ اعتمدت على نفسي بالتكوين الذاتي، وتمتين علاقتي بالقصة القصيرة قراءة ومعالجة. لينطلق فيما بعد مساري الإبداعي في هذا الفن الشيق بنكهته الخاصة. فضلا عن أن عنوان هذه القصة، قد تطابق مصادفة مع نشر أول نص قصصي لي، بعد كتابة نصوص سابقة، هي أكثر انتماء إلى مرحلة البداية البدائية، منها إلى مرحلة النضج.
لكن من جهة ثانية، أشير إلى أن أحدا لا يمكنه أن ينطلق من الصفر، إن على مستوى الإبداع والفن، وإن على مستوى الفكر. ذلك أن جهود السابقين، من المؤكد أنها بطريقة أو أخرى، تتسلل إلى رصيد المبدع، شعر بها أو لم يشعر، وتساهم في بلورة التجربة الإبداعية لديه بهذه الكيفية أو تلك.
وشخصيا كنت قد التهمت قراءة، أرتالا من نصوص المتن القصصي عالميا وعربيا ومغربيا، خلال فترة الدراسة الثانوية والجامعية، واطلعت على مختلف التنظيرات عربية وغربية للقصة القصيرة. فمن أدراني أن بصمات كافكا وهمنغواي ونجيب محفوظ مثلا، لم تتسرب إلى عملية كتابة قصصي. فكما أصبح متداولا، إن التناص يفعل فعله دوما في صوغ النص الإبداعي.
أنياب طويلة في وجه المدينة ” عنوان مجموعتكم القصصية الأولى، كشفتم فيها الوجه البشع لفئة الاستغلاليين. فإلى اي حد عانيتم من الاستغلال؟”
لعل هذا السؤال يرتبط بسابقه. فبالطبع إن قصص مجموعتي البكر (أنياب طويلة في وجه المدينة) الصادرة سنة 1976، لا تعالج تجربة شخصية مع الاستغلال مائة في المائة، بل تدخل ضمن تجربة جماعية متوترة مع هذا الخلل المقيت، بما كان يرسخه من تناقضات في الواقع المغربي فترتئذ. بدليل أن مجموعتي هذه لا تنفرد بهذا الموضوع، بل إنك بمراجعة بسيطة لمتن القصة القصيرة في مغرب الستينيات والسبعينيات، ستدركين أن هناك حوارية جدلية بين المناخ الاستبدادي المهيمن، والإبداع السردي خاصة، وغيره من حقول الإبداع الأخرى عامة. لقد كانت مرحلة صراع إيديولوجي بامتياز.
بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة، فيما يرتبط بعلاقة الذات بالموضوع. فأكيد أن الذات تحمل في ذاكرتها، ما عانته هي أيضا من ممارسات استغلالية، في شتى الميادين، إذ كان الانسان يصطدم بها في كل مناحي الحياة اليومية. ولا غرو، فتلك مرحلة وصمت بكونها (سنوات الرصاص)، علما بإن المبدع مجرد فرد من مجتمعه، وما يجري على الآخرين يمسه هو أيضا بشكل أو بآخر، من مثل ما تعالجه موضوعات المجموعة القصصية، مجسدة لجوانب من مظاهر الاستغلال في المغرب الجديد، كأنانية الأغنياء وعبثهم بالآخرين، وجشع الملاك والسماسرة، وإذلال العمال وتسخيرهم، وتغول السلطة وتسلطها.
وإذن، ليس كل ما في مجموعة (أنياب طويلة في وجه المدينة)، هو تجربة شخصية مباشرة، بل إنه تركيبة تخييلية عن واقع مزر في فترة محددة من تاريخنا، شطر المجتمع المغربي المتماسك بعد الاستقلال، إلى فئتين اثنتين: فئة متسلطة محظوظة، وفئة مضطهدة محرومة .
تمتعون رواد الشبكة العنكبوتية، من خلال صفحتكم على موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)، بومضات تحملونها مضامين متعددة. هل يمكن اعتبار هذه الومضات امتدادا لعنايتكم بكتابة القصة القصيرة؟.
أكيد أن هذه النصوص السردية المضغوطة، التي أنشرها بين الحين والآخر، في صفحتي الفيسبوكية، لا تعدم صلة بكتابتي للقصة القصيرة. ذلك أن كلا من القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، هما كما سبقت الإشارة، المهيأتان أكثر من غيرهما للتعبير عن روح العصر، خصوصا بعد ما أصبح يلاحظ من أفول لشأن الرواية، نظرا للحجم، وضيق الوقت المانع لقراءة المطولات لدى الإنسان المعاصر.
وشخصيا، كنت دوما أميل إلى قراءة النصوص القصيرة المكثفة، وربما كان هذا المزاج، من بين ما حفز توجهي لكتابة القصة القصيرة تحديدا. لهذا فأنا أكتب قصصا قصيرة بين الحين والآخر. لكنني وجدت في الفيسبوك والتويتر، فضاء ملائما لمزيد من القصر والتكثيف. فعليك أن تستجيب لكتابة نص قصصي في حدود مائة وأربعين كلمة، على التويتر. وعليك أن لا تثقل على قرائك في الفيسبوك بالنصوص المطولة. من هنا فإنني أزاوج بين كتابة القصة القصيرة والنصوص القصيرة جدا. وبالطبع تتدخل في المسألة، طبيعة التجربة القصصية. فمنها ما لا تصلح معالجته إلا في إطار القصة القصيرة، ومنها ما تستوعبه النصوص القصيرة جدا.
في قراءة لنصوص مجموعتكم القصصية “لحظة الصفر”، أوضح الدكتور أحمد حافظ أن هذه المجموعة ترصد تجليات ” الغروتيسك”، التي تنطوي على محفزات فنية وجمالية، تساهم في بناء هذا الخطاب وتوفير الشروط الإبداعية الملائمة لنهوضه. ما رأيكم؟.
الصديق العزيز الأستاذ الدكتور أحمد حافظ، باحث وناقد وشاعر متمكن. فقد قرأ قصص مجموعة (لحظة الصفر) بفكر الناقد الحصيف، وروح الشاعر المرهف الحس، مطيلا التمعن والمراجعات كعادته، لهذا جاءت رؤيته للمجموعة متذوقة ونفاذة وعميقة. مما لا نجده فيما يكتب بتسرع وينشر باسم النقد والنقد منه بريء.
وكما عودنا د. أحمد، فهو لا يغامر في المساهمة في أية قراءة للإبداع، إلا إذا كان سيضيف جديدا للنص المقروء. ولعله من هنا آثر اختيار مفهوم نقدي مستجد هو الغروتيسك، ليتخذ منه معيارا جماليا لمقاربة نصوص المجموعة.
فهو انطلاقا من قراءته النصية، الغنية بالمقارنات والمراجعات، قد استطاع تقصي ومناقشة مختلف تجليات هذا المفهوم، في قصص المجموعة، من مشاهد الحضور والغياب، والغربة والتغريب، والاستحالة والتحول، والأشباح والمسوخ. كما أنه اجتهد في تعليل هيمنة هذه الظاهرة الجمالية في مجموعة (لحظة الصفر)، ومحاولة الإمساك بمرجعياتها الاجتماعية ومنابعها النفسية وروافدها الثقافية، وفي مقدمتها تأثير الموروث الشعبي.
أي دور تلعبه البيبليوغرافية المتخصصة في السرد المغربي؟ وماذا عن السطو البيبليوغرافي؟.
للبيبليوغرافية عدد مهم من الأدوار التوثيقية والعلمية. وفي حقل الدراسة المتخصصة والمرجعية النقدية، تقدم البيبليوغرافية خدمات مستنيرة جوهرية جلى. ففضلا عن تسهيل عمل الباحث وتوفير المادة الخام وربح الوقت، فإنها كما رددت في مناسبات عديدة، تعد بمثابة البنية التحتية لأية دراسة أو نقد، عن قضايا وتطور القصة المغربية القصيرة، أوغيرها من الموضوعات، في مختلف الحقول العلمية والأدبية. وأستشهد في هذا السياق، بمثال دال على الأهمية الإجرائية للبيبليوغرافية. ذلك أن الكثيرين كانون يثمنّون أوائل الستينات، باعتبارها بداية للقصة القصيرة المغربية، لكن العمل البيبليوغرافي، غير تماما فيما بعد هذه القناعة المغلوطة، حين وضع اليد على مائات النصوص القصصية القصيرة، التي كتبها المغاربة خلال ثلاثة عقود سابقة على الستينات.
لاحظي أنني في إجابتي على السؤال الثالث، سردت لك لائحة أسماء لقصاصين يتوزعون على مختلف مراحل تطور القصة القصيرة المغربية. فمن أين تعرفت عليها، لو لم تقدم البيبليوغرافية إضاءة مهمة، لما حققه عطاء القصاصين المغاربة من تراكم.
وأشير بالمناسبة، إلى أنني حين انبريت أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، لإعداد منجزي البيبليوغرافي السردي، كان دافعي يتمثل في سد ثغرة، لطالما عانى منها مجايلي من الباحثين والنقاد، وعانيت منها شخصيا الأمرين، حين كنت أحضر شهادة دبلوم الدراسات العليا بين أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات.
وإذا كنت قد استطعت أن أستخلص مبكرا، مادة البيبليوغرافية السردية، من مظانها مباشرة، مع ما سببه ذلك من تعب مضن خلال عملية الاستقصاء، وجري مكلف وراء المجاميع القصصية المغربية لاقتنائها، من أجل وضع بيبليوغرافية علمية متخصصة في السرد المغربي موثوق بها؛ فإن عددا ممن جاؤوا بعدي، في الجامعة وخارجها، قد تطفلوا للأسف على الموضوع، وسطوا دون حياء على مجهوداتي، بتحايل مفضوح، دونما إشارة إلى صاحبها، كما تفرض أخلاقيات الباحث والناقد الحقيقيين، اضطررت اضطرارا لفضح بعضها في حينه، وغض الطرف عن غيرها، لكوني اكتشفت أن لا آذان لمن تنادي.
في شعرية القصة القصيرة ” كتاب صدر أخيرا عن سلسلة الأربعة، وهو يحمل في ثناياه أعمالا مهداة اليكم، حول تجربتكم القصصية، إلى جانب تجربة مجايليكم من القصاصين المغاربة، فكيف وجدتم محتوى الكتاب؟
في البداية أجدني منقادا إلى توجيه كل الشكر والامتنان، لزملائي وأصدقائي في شعبة اللغة العربية وآدابها، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، التابعة لجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وأيضا إلى أحبائي في مختبر أرخبيل للدراسات والأبحاث الأدبية، وخاصة منهم رئيسه الأستاذ الدكتور عبد الله بن عتو والأستاذ الدكتور محمد احميدة والأستاذ الدكتور أحمد حافظ والأستاذة الباحثة فاطمة كدو. وإلى كل المساهمين في إثراء أشغال اليوم الدراسي بمداخلاتهم الضافية القيمة.
من جهة ثانية، لا يسعني سوى أن أثمن عاليا هذه المبادرة العلمية الجادة. التي تؤسس لأعراف وتقاليد جامعية راقية، ولثقافة الاعتراف الحضارية. إن الكتاب يتكون من مجموع مداخلات اليوم الدراسي التكريمي لشخصي المتواضع، بمناسبة إحالتي على التقاعد الإداري. وقد خصص قسمه الأول، لمداخلات تناولت بالدرس والنقد تجربتي البحثية والقصصية، في حين خصص القسم الثاني للمداخلات المهتمة بتجارب بعض مجايلي من كتاب القصة القصيرة المغاربة.
والملاحظة العامة على المداخلات، تتمثل في اشتراكها في جدية البحث والتأويل والاجتهاد الرصين، واستحصال النتائج الطيبة. ولعل هذا يعود إلى الالتزام الأكاديمي، بدقة البحث وعمقه وحسن توثيقه، لدى المتدخلين جميعهم. وكل ذلك، يجعل من الكتاب إضافة نوعية في حقل دراسة القصة القصيرة ونقدها بالمغرب، كما يرشحه لأن يكون مرجعا مهما عنها، لا يمكن الاستغناء عنه.