بسبب معاينة شخصية لصديق العمر محمد أنقار، مدة مغرقة في الطول، تغطي زهرة العمر وهرولة الكهولة وتستمر في راهن الشيخوخة، تجمع لدي من الانطباعات والمشاعر والمعلومات عن الرجل، ما من شأنه أن يحتاج إلى وقت طويل عريض، ويملأ أسفارا ضخمة، حتى أتمكن من رسم صورة حقيقية ومكتملة له، تطول شخصية الباحث فيه وكذا نموذج الإنسان الذي يجسده.
ونتيجة لذلك واجهتني بالنسبة لمفاتيح هذه الشهادة ثلاثة تداخلات:
ـ الذاتي / الموضوعي.
ـ البحثي / الإنساني.
ـ تداخل كم المعلومات والتفاصيل المختلفة وغزارتها.
لذلك سأحاول التغلب على الصعوبتين الزمنية والمساحتية، وكذا على إكراهات تلك التداخلات، بطريقة الأكاديمي عندما يضطر إلى التصنيف والتقسيم وحصر القضايا والإشكالات وما أشبه، لكي يتغلب على الكم الهائل من الأعلام والمعارف والقضايا والأعصر وما أشبه، التي تكون المادة الخام لموضوع دراسته.
وهكذا سأضطر إلى حصر حديثي عن الصديق محمد أنقار في ثلاث محطات أساسية من عمر هذه الصداقة الحميمية المتشعبة والمتماسكة، ومحاولة الإطلال من خلالها على البعدين البحثي والإنساني المتداخلين في شخصيته.
المحطة الأولى :
تشمل النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي. وأقصد بها مرحلة الدراسة الجامعية في ظهر المهراز بفاس. وفي هذه المحطة كانت العلاقة مع محمد أنقار علاقة زمالة، تقتصر على تبادل التحية، أو الجلوس مع بعض الأصدقاء أحيانا في مقصف الحي الجامعي بعد تناول طعام الغداء والعشاء، أو الالتقاء العابر في ردهات الكلية وقاعة المكتبة. وقد لفت نظري فيه كونه كان أميل إلى العزلة عكس صديقيه المرافقين له في أغلب الأوقات: محمد بوخزار وإبراهيم الخطيب. يومها قلت في نفسي إن هذا الانزواء لن يكون سوى نتيجة لعمق الإحساس بالعالم، الذي يميز عادة الفنانين الأصلاء، إشفاقا على الذات من التلاشي في تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، بدل الاهتمام بالتحصيل والتفكير والإبداع. وإلى جانب هذا، حدست أنه مع دماثة خلقه البارزة في شخصيته، وتحفظه الشديد في علاقته بالناس، لا يمكن إلا أن يكون شخصا مسالما متصالحا مع العالم، ولا يمكن أن ينتج عنه تجاه الآخرين سوى السلام والاحترام.
وكان كل ذلك مدعاة إلى شعوري بميل خاص نحو الرجل، ومما ضاعف هذا الميل خلال هذه المحطة المبكرة، كونه كان مثلي ينشر قصصه القصيرة في جريدة العلم، سيما وأن قصصه هذه بدت لي ناضجة؛ فموضوعاتها مختارة بدقة، ومعالجتها متأنية ونافذة، ولغتها دقيقة ومأنوسة تدخل في دائرة السهل الممتنع، مع ارتباط حميمي بالواقع، في تحيز ظاهر للشرائح الاجتماعية المهمشة في المجتمع، وبقدرة عالية على الإمساك بالتفاصيل الصغيرة الموحية والمشاعر الدقيقة المرهفة. ولا زلت أذكر في هذا السياق مثالا جيدا هو القصة الجميلة ( الزلزال ) التي لا أشعر أن عقودا قد مرت منذ قراءتي لها.
المحطة الثانية :
وتبدأ منذ سنة 1968. إذ شاءت الأقدار أن نعين معا بعد تخرجنا في ثانوية واحدة بمدينة القنيطرة. وهنا أكرر ما ذكرته بالأمس القريب في حفل تكريمي من لدن مؤسسة محمد البوكيلي في هذه المدينة. حيث حمدت الله على أنه خلال تنقلي بين العمل في الثانوي، والعمل بالمركز التربوي الجهوي بنفس المدينة، ثم العمل بكلية آداب المحمدية، فكلية آداب القنيطرة، قد أحاطني بثلة من الزملاء والأصدقاء الرائعين، الذين حببوا إلي فضاءات العمل تلك، ومتنوا العلائق الإنسانية بهم، مما جعل الإقبال على تلك الفضاءات بمثابة نزهات حقيقية يختلط فيها العمل التربوي بالأنشطة الثقافية الموازية وبالتواصل الإنساني، إلى حد كان يملأنا الشوق إليها وإلى لقاء الزملاء والأصدقاء كلما تدخلت المناسبات للغياب عنها، وخاصة خلال عطلة الصيف الطويلة.
هنا في هذه المحطة، تمتنت صداقة نموذجية نادرة، لا يزال عنفوانها مستمرا حتى الآن، بين زملاء في العمل يشتركون في قيم الصدق والوفاء والإيثار والشعور بالمسؤولية، وفي حب الأدب والفن والإبداع، ويتقاربون في التفكير والذوق ووجهات النظر؛ هم : محمد أنقار، محمد السولامي، محمد دامون، ومصطفى يعلى. وبالطبع المجال لا يسمح هنا للاستطراد إلى الحديث عن طبيعة العلاقة الحميمية التي كانت تربط بين أولئك الشباب بتفاصيلها المحببة، ونمط الحياة الجامع للجد والمرح الذي كانوا يسلكونه يوميا، وأنا متأكد من أن الصديق محمد أنقار وهو يتابع كلمتي هذه يستحضر الآن في ذاكرته تفاصيل ذلك الشريط الممتع.
إن حدسي السابق خلال الدراسة الجامعية لم يخب في الحكم على شخصية محمد أنقار. فقد ألفيته فعلا فنانا حقيقيا بالسليقة، متمكنا وشموليا لا يتجزأ الإبداع لديه، خصوصا لما وقفت على مدى عشقه للموسيقى الكلاسيكية، وتمرنه على العزف على القيثار، بل وولعه بالتشكيل وممارسته. وتلك واجهة أخرى من واجهات شخصية هذا الرجل، من المؤكد أنه استثمرها جميعا بثراء في تجويد إبداعه.
لكن ما يهم في هذه المحطة بالنسبة لصفتي الباحث والإنسان في شخصية محمد أنقار، هو صورة الجدية المفرطة، التي كان ولا يزال يلتزم بها خلال استغراقه في البحث والإبداع، تلك الصورة التي احتفظت له بها في ذاكرتي، مثلما أحتفظ بمثيلتها للصديق الشاعر المرحوم محمد الخمار، فهناك تشابه قوي بين الرجلين في هذا الجانب، بل إنني أكاد أؤكد بالمناسبة أنها كانت صورة جيل بأكمله من الأساتذة الذين تحملوا عبء النهوض بالتعليم في المغرب غداة الحصول على الاستقلال في الثانوي وفي تكوين الأطر ثم في التعليم العالي.
لقد فاجأني محمد أنقار وهو أستاذ للغة العربية بالسلك الثاني الثانوي، بتصرف جديد على المستوى التربوي بالتعليم الثانوي، حيث كان يعمل كما لو كان أستاذا محاضرا بالجامعة. إذ لكي يدرس مثلا لتلاميذ الباكالوريا رواية ( زقاق المدق ) لنجيب محفوظ، المقررة ضمن مادة ” دراسة المؤلفات “، انصرف إلى قراءة كل ما طالته يداه من كتابات لنجيب محفوظ ودراسات ونقود عن نجيب محفوظ، بل وحرص على مشاهدة الأفلام المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ.
وفي خضم كل هذا جمع لوائح عديدة غاصة بالمصادر والمراجع المرتبطة بالموضوع؛ ليقدم في النهاية إلى تلاميذه المحظوظين دراسة مكتملة عن الرواية المقررة وعن صاحبها، في مطبوع من عدة أوراق كتلك المطبوعات التي وزعها علينا بعض أساتذتنا في الجامعة. ومثل هذا كان ديدنه في باقي مواد المقررات التي أنيط به تلقينها. الأمر الذي انعكس تقديرا واحتراما واعتزازا به، سواء من قبل تلامذته أم زملائه، وكذا من لدن إدارة المؤسسة. علما بأن هذا الجهد المرهق له ولتلاميذ بالثانوي لم يتعودوا إلا على ملخصات الدروس المملاة، ما كان ليعطي أكله لولا العلاقة النموذجية الإنسانية الطيبة التي كانت تربط الأستاذ محمد أنقار الشاب ذا الحادية والعشرين ربيعا في احترام متبادل، بتلاميذ يقتربون من سنه أو يتجاوزونه في العمر. ولعله كان بوعي منه أم بغير وعي، يعد نفسه للعمل في مستوى أعلى لن يكون سوى العمل في الجامعة بالتأكيد.
المحطة الثالثة :
وتمتد من أواسط سبعينيات القرن العشرين حتى راهن زمننا. وهي مرحلة تضاعف خلالها الجد والمثابرة لدى محمد أنقار. وبهذا زال الغبش عن الفكرة الهلامية المتعلقة بطموحه للعمل بالجامعة، حيث حرية البحث ونجاعة التأطير واتساع هامش الإضافة. فبعد حصوله على شهادة استكمال الدروس، تهيأ لإعداد رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا.
ورغم أن محمد أنقار كان قد انتقل إلى تطوان ناظرا عاما بثانوية جابر بن حيان، بعد أن أعيته الحيل للانتقال بصفته أستاذا للسلك الثاني، فإن ما كان قد تمتن من علائق الأخوة والمودة بيننا، حال دون تراخي هذه العلاقة المثالية، لاسيما وأنني كنت أقضي كل عطلي بتطوان في ضيافة أصهاري، مما سمح بلقاءاتنا كل مساء. وهكذا انخرطنا معا في عملية إنجاز رسالتينا في وقت واحد، مثلما هو الأمر بالنسبة لأطروحتينا فيما بعد. وخلال هذه المرحلة تمكنت عن قرب من معاينة كيف يعمل الرجل في استغراق تام لا تأخذه في ذلك لومة شكوى ولا وجع تعب. وإنما هو البحث والاستقصاء والجمع والتدوين.
وإنني لأستحضر في هذا الصدد كيف ونحن نقرأ بشقته في القنيطرة استعدادا لاجتياز امتحانات شهادة استكمال الدروس، كتاب ( النقد الذاتي ) لعلال الفاسي المقرر علينا، كيف كان يقف عند كل فقرة، ملخصا إياها في الهامش بعد وضع خط بارز تحت الأفكار المهمة فيها، ومعلقا عليها، ومنتقدا إياها إذا لم يستسغها، حيث يتحول الأمر إلى كتابة على كتابة، كما لو أن الكتاب كتابان. بيد أن هذا الصبر، وهو بالمناسبة من أهم صفات الباحث الجاد، قد خلته فوق الطاقة البشرية، حين وجدته يغرق في المكتبة العامة بتطوان يتصفح أرتال الصحف والمجلات المختلفة مما صدر خلال وقبل الفترة المدروسة في رسالته ( قصص الأطفال بالمغرب ).
ولم أنس حتى الآن بالنسبة لهذا الجانب، أننا قضينا كل شهر رمضان بهذه المكتبة المهمة نتصفح المجلات والجرائد من الصباح إلى أذان المغرب بلا توقف، فنعجز على الوقوف في المحاولة الأولى.
ولئن كان أخذ النفس بهذه الشدة، يشير في حقيقته إلى الشعور بمسؤولية الباحث تجاه بحثه، فقد تضاعفت هذه الشدة خلال تحرير رسالته ثم أطروحته. ذلك أنه كان أكثر حرصا على ضبط أدوات البحث من توثيق الهوامش وحسن ترتيب البيبليوغرافيا، واهتمام بلغة الكتابة العلمية المباشرة الرصينة والمؤدية للفكرة من أقصر طريق، وقوة الحجة والجدل والتبرير، وتوفيق في تحصيل النتائج الجوهرية المنشودة إن في أواخر الفصول والأبواب وإن في الخاتمة. وإنني لا أفشي سرا إذا قلت في هذه المناسبة إننا معا كنا بعد تبادل القراءة لما أنجزناه من فصول، أكثر تشددا وموضوعية في محاسبة بعضنا البعض من لجنة المناقشة ذاتها.
وفعلا، لقد حسمنا في هذه المرحلة معا، كل تلك التقنيات البحثية الجوهرية في أي عمل أكاديمي رصين، وهو ما انعكس على رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا، وأطروحته لنيل دكتوراه الدولة. بل وعلى كل ما كتبه ونشره من كتب وأبحاث فيما بعد. ولعل الكثير من طلبته النبهاء وخاصة في السلك الثالث، قد أدركوا مدى حرص أنقار على الجدية المتناهية في ممارسة البحث الجامعي، لذا لم يستطع منهم تحضير بحوثهم تحت إشرافه وفق شروطه في العمل سوى المتشبعين بنفس المنهج والهدف، في حين انصرف عنه الآخرون أو تهيبوا أصلا منه منذ البداية فسجلوا بحوثهم مع غيره. وتتأكد هذه الحقيقة عندما نرى اليوم كثيرا من طلبته وقد أصبحوا باحثين لهم اعتبارهم داخل الجامعة وخارجها، كما صاروا أصدقاء له أو زملاء في الكلية، متخذين إياه نموذجا في منهج العمل والبحث المنتج، ومثالا في السلوك والتواصل الإنسانيين.
وأختم هذه الشهادة العجلى، بتأكيد قيمة اعتبارية لا تتوفر للباحث الحق إلا إذا جمع بين الإخلاص للبحث بشروط الصدق والأمانة والصبر والمثابرة، وبين التواضع ونكران الذات والتواصل الإنساني. وتلك مواصفات تمثلت بصورة نموذجية في شخصية الصديق الأستاذ الدكتور محمد أنثار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الكلمة التي شارك بها الكاتب في اللقاء التكريمي للروائي والباحث والناقد المغربي د. محمد أنقار، المنظم من لدن مؤسسة منتدى أصيلة، في إطار برنامجها الثقافي والفني لموسم 2009-2010، وذلك مساء يوم السبت 3 أبريل 2010، في قصر الريسوني بأصيلة.