رمقته وانا على بعد خطوات منه، شاب في مقتبل العمر، مفتول العضلات، واقف في زاوية من زوايا المركز الإستشفائي الذي كنت أدخله، لا أحد بجانبه، خلته في أول وهلة أحد الأعوان، أو واحدا من المساعدين أو المراقبين بالمصحة، غير أن فرضيتي سرعان ما تبددت مع انكشاف الحقيقة التي أدركتها بنفسي من خلال معاينة الحالة التي كان عليها .
إنه مصاب بهستيريا ضحك، يضحك ويضحك ويضحك لوحده ومع نفسه، حتى وهو يراني أقترب من الممر الذي يعبر بجانبه لم يتوقف عن الضحك، ينظر إلي والضحك لا يفارق فاه، أرسلت شهقة خفيفة وقلت :
– يا إلهي … إنه نزيل من نزلاء هذا المستشفى من دون شك .
لكن ما الذي يضحكه كثيرا بهذا الشكل ؟؟
سؤال طرحته على نفسي وأنا أختلس من حين لحين نظرة إليه، ليأتيني الجواب أنه تعرض لصدمة نفسية قوية، زلزلت كيانه وأفقدته السيطرة على توازنه النفسي و السلوكي، فكان الضحك المتواصل وبدون توقف، هو العلامة التي تشير إلى أن الشخص يحتاج إلى تدخل طبي لإعادة ضبط شخصيته لتعود إلى استقرارها المألوف، ولهذا الغرض كان حضوره لهذا المستشفى .
حالة من مجموع عدة حالات مرضية، أجبرت على الوقوف عليها وأنا أتواجد صدفة بهذا المستشفى الذي رتبت الظروف إطلاعي على ما بداخله، كما رتبت – من قبل – إطلاعي على ما يجول بدور المسنين..
دروس كثيرة استخلصتها، وحقائق يقينية استجليتها، فكان النضج الإنساني بداخلي ينمو أكثر فأكثر، واليقين بأن الحياة لا تساوي جناح بعوضة يتأكد لي، متى عاينت مثل هذه الصور الإجتماعية الإنسانية التي تشعرني بالشفقة مرة، وبالبكاء مرة، وبالتدخل لتقديم العون مرات أخرى .
المؤسف هو أن مجتمعاتنا لم ترق بعد إلى اعتبار المرض النفسي مرضا عاديا كبقية الأمراض رغم كثرة شيوعه، حيث يسارع الناس إلى جعله ضربا من ضروب الحمق والجنون، وهو في الأصل خلخلة في ميزان الإستقرار الذي تهزه صدمة من الصدمات لايكون الفرد مهيئا لتلقيها، أو هو نتيجة تراكمية لمشاكل عديدة يعاني فيها المريض في صمت دون أن يجد له منصتا أو مهتما أو سائلا عن حاله الداخلي المشحون لانشغال كل شخص بذاته وبهمومها .
كما يسارع الناس في أغلب الحالات لطلب العلاج لهذا المرض من الدجالين والمشعوذين والسحرة معتقدين أن المريض أصابه مس أو روح خبيثة نالت منه أو عمل شيطاني عمل له، فلا يقتنعون بأن هناك شيئا إسمه ” المرض النفسي” وأن هناك شيئا إسمه ” مستشفيات الطب النفسي” تسعى لتقديم الخدمات الطبية والعلاجات المناسبة لكل الحالات المعروضة عليها بعيدا عن عالم الدجل والشعوذة .
فالشاب الذي يضحك لايضحك رغبة في الضحك أو فرفشة، إنما هي ردة فعل لامقصودة على ما تعرض له، ربما هي قصة عاطفية خسر فيها الكثير، ربما هي قصة معاناة مجتمعية رافقته من صغره إلى كبره لم تعد تلقى مساحة للتحمل بداخل المريض، أو ربما معاملة قاسية غير منتظرة عومل بها في وقت كان يحتاج فيه إلى من يأخذ بيده ويربت على كتفه ويمنحه الشعور بالإطمئنان والهدوء ….
أعترف أن الضحك تملكني وأنا أرى هذا الشخص يضحك بلا توقف، لم يكن ضحكي استهزاء بوضعه ولا سخرية من حالته المرضية، إنما مشاركة مني له في خلاصة تفيد أننا في هذه الدنيا غافلون عن عدة واجبات اتجاه بعضنا البعض، غافلون عن مجموعة حقائق نحن على موعد معها أولها حقيقة الموت التي لم يعد أحد يعد لها العدة أو يحسب لها حسابا إلا من رحم ربك، غافلون عن الإصغاء لهموم بعضنا والمبادرة للتضامن والتنفيس عن غيرنا في عز الأزمات، وهو سلوك له ما له من حسنات وآثار إيجابية نفسية محمودة على النفس والغير.
غافلون عن التمسك بقيمنا الأصيلة الداعمة لحياتنا الحاضرة والمستقبلية، غافلون عن أن الزمن دوار ولا تدري نفس ماذا يمكن أن يلحق بها غدا من أذى أو تغيير، غافلون عن أن بعض الأمراض النفسية المنتشرة في مجتمعاتنا اليوم لها حلول بسيطة في متناول أيدينا، لاتخرج عن نطاق كلمة طيبة والتفاتة صادقة وأسلوب معاملاتي يحمل معاني الرقة والإحسان ومراعاة نفسية الآخر.
هذا ما دفعني إلى الضحك في وجه نزيل المستشفى الضاحك، فلا أحد يأمن مكر الحياة التي أخذتنا إلى بعيد وقيدتنا بأحبال الغفلة عن أداء واجباتنا الإنسانية، ضحكت ولسان حالي يقول :
– اضحك ولنضحك جميعا من غفلتنا عن أمور فيها مصلحتنا، اضحك فما الدنيا إلا دار فناء لا تستحق الحسرة ولا الألم، ولن تغير حسراتنا وآلامنا فيها شيئا مادام كل شيء مقدر ومكتوب.