كنا بالعاصمة المغربية الرباط، وقررنا العودة إلى مدينتنا الأم القصر الكبير، وبحثا عن سفر مريح بعيد عن أي شد وجذب على المقاعد رغم أنها مرقمة سلفا، وهروبا من أي ضجيج ناجم عن شدة الازدحام والاكتظاظ، قررنا حجز تذاكر بمقاعد الدرجة الأولى من القطار.
تم الأمر، وحين اقترب موعد قدوم القطار التحقنا بالمحطة مغادرين محل سكنانا. أشار إلينا أحدهم – أثتاء الدخول – بالاتجاه الذي نقصده حيث تتوقف الدرجة الأولى، استجبنا وجلسنا في مكان ننتظر وصول هذا الأخير.
دقائق معدودة وها هو القطار قادم، كانت الدرجة الأولى في المقدمة مما جعلنا نصرخ بصوت واحد أنا ورفيقتي وكأننا نحاول أن نمسك بها وقد أفلتت من قبضتنا وقد اتخذنا مكانا مخالفا لاتجاه وقوفها :
الدرجة الأولى .. الدرجة الأولى
شرعنا في الجري ثم الجري، القطار طويل وعرباته لا تحد، رددنا سويا:
يا للويل، كيف سنلحق بالدرجة الأولى الآن، يلزمنا الكثير من الخطوات والقطار يتحرك سريعا. وجدنا أنفسنا أمام موظف من موظفي السكة الحديدية بزيه الرسمي، سألناه :
سيدي، عذرا أين الدرجة الأولى من القطار؟
أجاب الرجل :
إنها في المقدمة، أمامكما سير كثير للحاق بها، اصعدا القطار أولا قبل أن يترككما ويتحرك، وابحثا كما تشاءان بعد ذلك.
صعدنا، طبعا كانت الدرجة الثانية مكتظة عن آخرها، لا مجال للعبور إلى أي اتجاه، ولا مكان حتى لأخذ نفس، كانت دهشتنا كبيرة ونحن نعيش هذا الوضع الكئيب وقد عمدنا لتجاوزه سابقا، كنا نبحث بأعيننا عن مسلك بسيط يحررنا من ورطتنا، لم نجد غير القهقهة وسط الجموع للتنفيس عن أعصابنا المشدودة، استحضرنا عبارة كان يرددها أحد الكوميديين المغاربة:
المسخوط واخا فوق الجمل يعضو الكلب .
ضجكنا كثيرا وكانت ضحكاتنا تثير فضول الراكبين الذين كنا نراهم ينظرون إلينا نظرات استفهام، أدعو رفيقتي للتحلي بالصبر وتدعوني هي للأمر نفسه، وكلما التقت عيوننا عاودنا الضحك من جديد، مايزيد عن عشرين دقيقة من الجحيم بددناها ضحكا قبل أن نسمع صوت المخاطب الآلي بصوت امرأة يقول : محطة القنيطرة.
فرحنا وكنا أول النازلين، سارعنا إلى المصعد الكهربائي صعودا ونزولا، اتجهنا صوب السكة التي سينقلنا القطار عبرها لمدينتنا، وجدنا القطار في انتظارنا، سألنا عن الدرجة الأولى فأشير إلينا بها، ركضنا بسرعة نحوها ولم ننعم بالراحة والهدوء إلا ونحن جالستين برقمينا مثلما سطر قانون القطار.
كان الفرق بين الرحلتين واضحا، تعب وإجهاد وسباق مع الزمن من الرباط إلى القنيطرة، واطمئنان وسكينة من القنيطرة إلى القصر الكبير، وشتان بين الحياة والحياة في ظل التناقضات المفروضة.