ما الذي جعل الحياة بكل هذه التعقيدات ؟ ما الذي ساهم في تعكير صفوها حتى أفقد الناس الثقة في بعضهم البعض؟ ما الذي أبكى عيونا وأدمى قلوبا وأصاب نفوسا بجروح ونديات ؟ أهي الحياة نفسها بعدوانيتها وشراستها أم البشر بقبحه وشره وخبثه؟
لو فتحنا المجال لطرح مثل هاته الأسئلة وغيرها حول ما يدور في كوكب هذه الحياة العجيبة ما انتهينا، إذ التأمل في تفاصيلها العجيبة من شأنه أن يفضي إلى نتيجة واحدة تفيد بأن الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان هو من يرسم خريطة الحياة البسيطة والمعقدة، وهو من بيده أن يسير بنفسه وبغيره إلى بر الأمان إن تجنب ما نهى الله تعالى عنه، وتمسك بما أمره به الخالق سبحانه، ولكن هيهات هيهات أن يستقيم كل الناس لتستقيم الحياة .
لابد من أفعى تتسلل للدغ أجساد بريئة تتركها تنزف إن لم تقتلها في الحين، لا بد لعقرب سام يلسع ويمضي بغير اكتراث لما تسبب فيه من أذى لغيره، ولعله ما يؤثر بشكل سيىء في الحياة العامة فيفسد العلاقات ويدخلها في دوامة التعقيد والتشابك والمتاهة التي لا سبيل للخروج منها.
غدر .. خيانة.. كذب.. نفاق .. تملق.. خذلان .. بيع الثمين بالرخيص، وفي النهاية فراق وانسحاب، غربة ووحدة في وقت يحتاج فيه الإنسان بشدة لمن يؤنسه ويتقاسم معه الأفراح والأحزان، ولمن يشد عضده ويقويه في مواجهة الأزمات والمواقف الصعبة.
في كل طريق هناك إنسان يتأبط آلاما ويبكي في داخله ويتظاهر بالقوة في وجه أخيه، يكتفي بنفسه لمواساة نفسه، يكلمها ويناجيها ويوصيها بالصبر والنهوض من جديد دون الاستعانة بأحد، لأنه لا يوجد من يُعَوّل عليه في تولي المهمة في هذا العصر الذي يؤمن بالقسوة ويكفر بالرحمة .
في كل زاوية من زوايا الحياة إنسان شارد الذهن تسرد ذاتُه شرائط قصص وحكايا موجعة، لا يحس بوجعها إلا هو، تمزقه داخليا فيكابد في صمت، مكرها أخاك لا بطل، فلو أنه وجد حضنا آمنا لاشتكى وحكى، ولو أيقن أن من سيمنحه شظايا وجدانه فيلملمها ويحتويها في حب لما عاش حريصا على عدم الأمان وتسليم المفاتيح للحذر مغبة أن تتعمق كدماته أكثر.
لقد انبثقت تعقيدات الحياة من سوء تصرفات البشر، أما الحياة فهي متصالحة مع ذاتها، وفية لطبيعتها مخلصة في أداء مهمتها، النهار مع الليل يتعاقبان في تفاهم، الشمس والقمر يتبادلان الأدوار في انسجام تام، السماء والأرض يحافظان على مبدأ التباعد بينهما ولم ينطبقا، بينما بنو البشر قلبوا كل الموازين، وخلقوا اختلالات لا حصر لها، وتباكوا في النهاية وتساءلوا : من وراء كل هذا الشقاء ؟
أظن أن الجواب بات عند الجميع، فظلم النفس لنفسها ولغيرها كاف لكي يزلزل أي استقرار، والاتفاق على الشر وتجنب السبل المؤدية لفعل الخير كاف أيضا لكي يهدم بناء أي علاقة كانت، والانجراف مع تيار المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة كفيل أن يعدم الآخر ويحيي الأنا التي لم يخلق الكون لأجلها وحدها بل لتكون في خدمة الجميع تحقيقا للسلام وسدا للاحتياجات بقدر ما هي تنتفع وتحقق غاياتها.
الحل إذن في إنزال الأمور منازلها، والعودة بالتعقيدات التي ابتدعتها أيادي البشر إلى وضعها الأول البسيط المبني على القيم الحميدة والتنشئة القويمة ونبذ ما يخدش حياء البراءة وينهش عفتها. حقا إن الأمر ليس سهلا، غير أن العزيمة والإرادة والإصرار والإقدام بشجاعة على تغيير الحال بأفضل منه يمكنه أن يحقق المستحيل، وبتضافر الجهود وعقد النية في الإصلاح مع الالتجاء إلى الله وتبني مبدأ التقوى وخشية الخالق سبحانه ستتلاشى المخاوف وتهون الصعاب ويسهل بلوغ المراد.