راقني إعلان عن لقاء فني تنظمه مدينة من المدن المغربية تحت عنوان :” آجي نغنيو “، وما أثار إعجابي بشدة أنه كان واضح الهدف صريح العبارة صادق النية في مخاطبة الفئة المهتمة، فالمحور الرئيسي الذي يدور حوله هذا اللقاء مثلما ببدو جليا هو الغناء، وبالتالي فالفكرة واضحة والغرض مفهوم، يتلخص في قضاء وقت للاستمتاع بأجواء الطرب والغناء بعيدا عن تزاحم الميادين الأخرى وتداخلها، والدخول في دوامة الفوضى والعبث الذي لا حدود له.
إن الملاحظ في أغلب الأنشطة المنظمة أنها لا تحترم وحدة الموضوع الذي يدور حوله الحفل ومضمونه، فقد تجد لقاء علميا سرعان ما يتحول إلى رقص وغناء بينما أنت قادم لإغناء فكرك بمعلومات حول مجال معرفي معين، فتغادر خاوي الوفاض مستاء مما رأيت ووجدت وكأنه تم استدراجك للحضور واستغفالكـ لأنك بالأساس كنت تملك رغبة قوية في تغذية عقلك فإذا بك تفاجأ بوقوعك في أحضان واقع آخر لم تكن مهيأ له وربما لست في حاجة إليه تلك الآونة.
مايدعو للأسف، هو أن تخرج مجمل الأنشطة من سياقها الحقيقي إلى سياقات أخرى ذات أهداف مناقضة، يحددها التطبيل والتزمير والتمايل بالأجساد والتصفيق، وإلى غايات غير نبيلة تصب فيما يطلق عليه ” القصاير” أكثر من لقاءات علمية وفكرية مفيدة وذات بعد دلالي ثقافي محض.
لكل مجال إطاره الخاص الذي يليق به، وأي خلط بين المزاعم والأفكار والرغبات الشخصية من شأنه أن يفسد الذوق العام ويؤثر بشكل سلبي على جوهر النشاط المنظم، وأي احترام لدواعي التنظيم والأهداف المتوخاة منه مع مراعاة تطبيقه في صورته المشرفة المؤتية أكلها وفق ما سطر سيترك لا محالة أثرا طيبا في النفوس، ويخلف انطباعات حسنة لدى المتلقين، سواء على مستوى تقدير جهود المنظمين، أو على مستوى جودة النشاط المنظم، أو على مستوى إشعاعه والصدى الذي يعقب التنظيم.
إن أي تهور أو استهتار أو انفراد بسلطة التحكم مع عدم مشاورة أو مشاركة أطراف مساعدة يمكنها أن تضفي ما ينفع بلمسات جادة على العمل هو إجهاض للنشاط المنظم، ووأد للإبداع وموت للثقافة برمتها في أبعادها السامية. فليس كل شيء يناسبة الطبل والمزمار والرقص، خصوصا وأننا نعلم أنه بحضور هذه الأشياء الثلاثة يحضر الهرج والمرج ويفقد النشاط العلمي الثقافي كنهه وبوصلته في إعادة ضبط الجمهور، والذي يجدها فرصة لإطلاق العنان للترفيه عن نفسه المرهقة بالمسؤوليات، ورفض إعادة فرض قيود الانضباط عليه من جديد داخل قاعة المحفل وفضائه.
أجواء الفرح والمرح والتطبيل والتزمير والرقص متاحة على طول الوقت، ويمكن للمرء أن يحققها متى شاء ومتى تولدت لديه الرغبة في ذلك، بمفرده في بيته أومع أهله وصحبة عائلته أو رفقة أصدقائه في لقاءات خاصة، لن يعيب عليه أحد ولن ينتقده بشر، طالما يمارس حريته في المساحة المسموح له بها قبلا، عكس أن يقدم على الفعل في مرافق وفضاءات لم تنشأ من الأصل للتهريج أو الوضاعة أو ما يثير الشبهات من السلوكات والتصرفات.
لقد افتقدنا الجدية في تسيير وتدبير وتنظيم الأنشطة الهادفة، وبات التمييع والاستهتار وطابع ” لقصاير” يطغى على المشهد الثقافي بشكل عام مع شيوع الاختلاط غير المنظم بين الجنسين، مما أفرغ بعض اللقاءات الثقافية باختلاف صنوفها من محتواها الحقيقي النبيل وألبسها زي العهر والفحش فنزل بها إلى الحضيض بدل الارتقاء بها عاليا. الشيء الذي يدفعنا إلى الاستنكار وطرح أسئلة عدة على رأسها: هل كل ما يطرح وما يعرض ويقدم من أنشطة ثقافية حاليا هو فعل ثقافي صرف كما اعتدنا منذ عقود أم تكريس صارخ لجو ” لقصاير” المعمول به داخل أوكار الفساد ؟؟