فجأة تعطل المصعد. فانظر كيف ستخرج من هذه الشرنقة الفولاذية. كان المصعد قد أبطأ في النزول، إلى درجة أنني شككت في أنه سينزل، لولا أنه انقض بهدير قطار قديم. انفتح شدقه تلقائيا. التقمني فور ولوج رجلي داخله. وما أن كبست الزر المطلوب حتى أغلق فكيه علي. فانهالت على الفضاء وحشة مضاعفة، ربما بسبب ضوء كليل سيء التوزيع، وجدران خشبية مشققة، مصفح وسطها برقائق قصديرية صدئة، وربما لتسرب رائحة نتنة من عالم الإسطبل، وربما لرهبتي الدائمة من استعمال المصاعد.
تفاقم الحزن الذي يسكن أعماقي، بقدر ما تغذت ظنوني على شكوك غامضة، فعضضت أصبعي متمنيا: ليتني أجلت موعدي مع المحامي.
زأر القفص وارتعد. ثم تحرك نحو الأعلى مخلخل الأعضاء. فاستثار خفايا خريطة مخاوفي، حيث انتفض الارتياح فارا من أعماقي، وأومأ إلي أن احترس. فلسعت ذاكرتي حوادث مميتة، وقعت في عدد من مصاعد المدينة، إلى حد خيل إلي أن جدران القفص شرعت تتقارب ببطء، ليلتصق بعضها ببعض، فتعصرني.
رمقت ملامح وجهي الباهتة، داخل مرآة مشروخة، ملطخة ببقع سوداء. أنكرت أنني أعرف هذا الوجه الممتقع. ولتناسي وجودي وحيدا، بين أربعة جدران كالحة، انحشرت في زاوية أجتر محطات حياتي، كمن يستعد لتأبين ما.
حين أوشك المصعد على الوصول إلى الطابق الثالث، قرقع مع صرير فظ، ثم أخذ يضطرب بشراسة بين الاتجاهات الأربعة، وكأن زلزالا لذ له أن يتسلى بترقيصه، ثم أرخى أعنته دون كوابح، متيحا اصطدام كتلته بشيء ما، محدثا صوتا عنيفا يشبه طلقة مدفع.
حي ميت انحدرت متحلزنا في جوف متاهة غائرة، كما في الحلم. داخل عيني تكدس ظلام كثيف، نافث لبرق ونجوم طائشة، بينما عرقي يقتات من رعبي فيتصبب باردا. وكما هو متوقع في مثل هذه الحالات، نبهت الرجة القوية بصيرتي الغافية، إلى أن لحظة إمساك ملاك الموت بتلابيبي قد أزفت، كما انسربت بي إلى أطلال مدينة خارج التاريخ، يمخر الظلام بها في سعة، شوارعها غاصة بعمارات وقلاع من دخان وظلال ورطوبة وضباب، وهواؤها ينثر مساحيق زنخة، وتقطنها أشباح من خزف.
قصارى ما استطعته حين ردت إلي الروح، أنني تململت، لأتأكد أنني لم أصب بعاهة ما. ثم ركزت كل كياني في عيني وأذني، لعلي أستبين بصيصا من ضوء، أو أسمع نأمة ما، لكن لم يتسرب أي وميض إلى فضاء القفص، ولا سُمع أي صوت. وإنما هو ظلام موقد، يعوي بكل أنواع الرعب، أفزع زحفها حدسي، وأشعرني بكآبة القبر. ترى كيف سأتصرف؟. جاشت بشكي فكرة أن الإفلات من عتمة هذا القبر اللعين، عسير حتى على الجن الأزرق.
كما وجدتني أَعِدُ نفسي لو قدر لي تخطي هذه الورطة بسلام، فسوف أقيم حفلا أبهج غير مسبوق، بمناسبة عودتي إلى الحياة. لكن ذهني أفشى لكياني همهمة مبحوحة: إنك سجين تابوت معلق؟.
لقد كنت طوال عمري موهوبا في تجنب أحبولة المخاطر، رغم انتشار غابتها كحقل ألغام. والآن ها هو حظ عابث يرمي بي إلى عقر الخطر، من حيث لم أتوقع. لم يسعفني ارتباكي من تحديد موقع القفص، هل قفز إلى الأعلى؟ أم هوى إلى الأسفل، فانبطح في قرار الدهليز العمودي المعتم؟، أم تراه انحبس بين تخوم الجدران الإسمنتية، بعيدا عن أي باب؟. وكما يبحث الغريق عن خشبة النجاة لحظة الغرق، اندفعت بحركة تلقائية نحو لوحة الأزرار، ضغطت عليها بحدّة مرتجفة، دون جواب. إنما هو صمت عنيد، يساعد على سماع أنفاس قلبي المتسارعة.
صورتي نسيا منسيا، في مثوى قفص ضيق كالتابوت، إلى ما لا نهاية، تشبه جنازة. طَنَّ في أذني صوت جهوري منغم: عباد الله، صلاة الجنازة، والميت رجل… سفكت الصورة ثمالة ثباتي، وحملتني على العودة إلى تصويب أذني في تركيز قط، متسقطا صوتا ما، في حين كان فمي المزموم يحتشد بأسئلة عن سبب ما حدث.
مثل ذئب جائع عمدت إلى الصراخ مهتاجا دون توقف، من غير أن أسمع حتى نباح الكلاب الضالة، إنما هو صمت مستمر في عربدته. ودعك يا هذا ممن في الخارج. فلا تتوقع استنفارهم متواثبين لتخليصك. لا مخرج لك سوى بالاعتماد على ذكائك ومهارتك. أما الآخرون؟ فأنت أدرى بمكر هذا الزمان. في الخارج كان الناس كديدنهم مشغولين بهمومهم؛ يتبايعون ويتشارون، يكيد بعضهم لبعض، يأكلون ويشربون، ينامون ويتناسلون، يمرضون ويصحون أو يموتون، ولا يملون مشاهدة التلفزيون.
وكما أرتعب في الحلم من السقوط من فوق سور عال مخلخل، أفضت خشيتي من اختلال توازن القفص، فيسقط في القاع، إلى أن أقف في الوسط، ممتنعا عن أي حركة. ولو كنت أؤمن بالخرافات، لصدقت أن المصعد حبيس كفي عفريت. لكنني من غير أن أتوقع، تلقفت أذناي صوتا غامضا مدفونا في الحلكة، مخاطبا إياي بعجرفة ساخرة: أهلا بتوأمي المغبون. من؟! هل هناك أحد؟. نعم. أنا هنا. ومن تكون؟، ومن أين أتيت؟.
أنا حمدان ومن لا يعرفه. حلاَّل المشاكل. انتفضت كمن لسعه زنبور أسترالي، ولم أستطع كبح تجهمي: ما هذه الهرطقة أيها الرجيم؟، بل أنا هو حمدان. لكن الظلام أجابه بثقة مؤكدة: ولو طارت معزة، فأنا حمدان حمدان حمدان. وماذا تريد مني يا وجه العنزة؟. بل قل يا أفحل التيوس. لقد جئت لأعرض عليك خدمات المجرب.
اللعنة على الطفيليين. أنا طفيلي، لكن لست خاملا مثلك. قارن بيننا، وسترى أنك متهم بانتحال شخصية غيرك؟. لم أهتم أكثر، إذ أريقت داخل كياني تهدئة مريحة، ليس لأنني سمعت من أسرع لإصلاح عطب المصعد، بل لكون شعاع من أمل أبرق بين تضاعيف دواخلي، بفعل وشوشة مرثاة (لماذا لم يدقّوا الخزان؟) في ذهني، كنت قد قرأتها في خاتمة رواية، عن ثلاثة أشخاص أرداهم جحيم شمس خليجية، داخل خزان شاحنة.
أورق تلعثم تلك الجملة الوامضة، بين رفوف ذاكرتي، شعورا بكوني أستملك الدنيا. لقد سعت إليَّ طوق نجاة، في اللحظة الملائمة. فانخرطت فورا بكل قواي، في الدق المتلاحق على الصفيحة القصديرية للباب الحديدي، إلى حد إدماء كفي، وخروج عرق كثير من جسمي.
ولمّا لم تند أي إشارة من الخارج، أخذ التراخي يأكل ببطء صوتي الذاوي، بينما اشتد رعبي من أن أظل محاصرا هنا. لكن سرعان ما استشعرت أذناي صوتا مبهما بعيدا، يشبه النباح، جعل يردد بوتيرة فظة: كفى قرعا. انتظر. بعد قليل سيأتي المكلف بصيانة المصعد.
توقفت عن الدق، متنفسا بصعوبة داخل الظلمة، بينما انتسج في دماغي عش شكوك معتادة.