شرع الله الإرث في الإسلام لحكمة ربانية، وأغراض اقتصادية واجتماعية ونفسية، ومصالح إنسانية، وغير ذلك من المنافع، ما ظهر منها، وما بطن، والتي تساهم في تقوية الأواصر الأسرية، والروابط الاجتماعية، فالإرث يقوي مواثيق المحبة والمودة بين الأب وأبنائه، وباقي أفراد عائلته، وبين الزوج وزوجته، والأم تزرع بذور العطف والمحبة والحنان في نفوس أبنائها، والإرث كذلك يساعد على تفتيت كثلة الثروة، وعدم تجميعها بين يدي فئة قليلة من الناس، ويقلص بين الفوارق المالية بين عموم الناس وطبقات المجتمع، وهو بذلك يبطل مقولة “إغناء الغني، وإفقار الفقير”، ويرسخ مبدأ التكافل الاجتماعي، قال تعالى: ” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا”.
والإرث بهذا المعنى مشروع يساعد على التقليص من نسبة الغنى الفاحش، وتجنب التضخم المالي، ويساهم في مكافحة الفقر، وتيسير سبل العيش للسواد الأعظم من الناس، وخاصة المحتاجين منهم، كما يجسد الإرث مفهوم العدالة الاجتماعية والاقتصادية،وذلك بتوزيع تركة الهالك على أقاربه وذويه، الأقرب فالأقرب، ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وذلك يساعد على بناء صرح الأسرة، وتماسك أفرادها بحبال المودة والمحبة والتعاون، في حياة العائل وبعد وفاته، فالشريعة الإسلامية تحرص على تقوية أواصر القرابة، وصلة الرحم، ودعم العلاقات الاجتماعية والأسرية، وحمايتها من فيروس الحقد والحسد والصراع والخصام.
ذلك شرع الله وحكمته، ونعمة من نعمه التي لا تعد ولا تحصى، لكن في غياب ألإيمان، أو ضعفه، لا يمتثل بعض الناس لأوامر الله ونواهيه، ولا يطبقون شرعه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتتحول هذه النعمة إلى نقمة، وتتداعى عواقبها الوخيمة، وتزرع في نفوس أغلب الورثة بذور النفور بدل الوئام، والعداوة بدل المودة، والصراع بل التعاون، والتفرقة بدل التآزر، وتدفعهم إلى رفع دعاوى إلى المحاكم، التي بدورها تتفاوت نجاعتها في معالجة الظاهرة، والتخفيف من أضرارها المختلفة.
هلك هالك وترك أما وزوجة، وخمسة أبناء، وثلاث بنات، وقد شيعه الأهل والأصدقاء إلى مثواه الأخير، ومرت الأيام والشهور، ولم يجرؤ أحد من ذوي الحقوق أن يطلب بتقسيم التركة تجنبا للإحراج، أو سوء الظن، والكل غافل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره، “ألحقوا الفرائض بأهلها….”، وبعد أن طال الانتظار، ونفذ الصبر اضطر جميع الورثة إلى المطالبة بتوزيع التركة، وتطبيق شرع الله، إلا أنهم اصطدموا برفض الابن الأكبر، أو بمن استحوذ على معظم التركة بالقوة والاحتيال، وبمنطق السطو، فأغلب الورثة يودون تقسيم التركة بالود والتراضي، غير أن الطمع يعمي أقلهم إيمانا، وأكثرهم طمعا، فيمتنع عن التخلي عما في يديه، وتحت سلطته وحيازته من أراضي وعقارات، فيراوغ ويتعنت ويجادل، يرفض أي شكل من أشكال القسمة والتسوية، فيلتجئ باقي الورثة إلى القضاء لانتزاع حقوقهم المغتصبة من أقرب الناس إليهم، ويدخلون مجبرين إلى دهاليز المحاكم، ويتيهون بين تشعب المساطر، وتباعد جلسات التقاضي، وتمر الأيام والسنون، وتنشب بين الإخوة الأعداء العداوة والبغضاء، وتنفلت حبات السبحة، وتقطع صلة الرحم.
توالت السنون، وشب الأطفال الذين تركهم آباؤهم في سن الرضاعة، وهرم الشباب من الورثة، ومات من مات، ولا زال الحال هو الحال، فدعوى قسمة التركة لا زالت تتأرجح بين أجنحة المحاكم الابتدائية والاستئناف، فقد تأخر كثيرا النطق بالحكم وحل النزاع، وتسبب ذلك في ضياع كثير من فرص التنمية والاستثمار على الورثة والوطن، وزرع في مشاتل الأسرة والمجتمع بذور الشقاق والأحقاد، واستنزف طاقات فكرية ومالية وإدارية، كان من الممكن استثمارها في مجالات التنمية، بعد أن عانت عشرات الآلاف من الأسر المغربية الكثير من الأسى والضيم والانتظار، وتهدمت دور، وحنطت عقارات بسبب تأخر قسمة التركة على الورثة أعواما وعقودا، وبعد أن تجرع المجتمع مرارة وتبعات الصراعات العائلية، ومن أجل ضمان حقوق جميع الورثة، وحماية صرح الأسرة من التصدع والانهيار، وامتثالا لشرع الله، وجب التفكير الجدي في إعادة النظر في الإجراءات والمساطر القضائية، والآليات المعدة لفض النزاعات بين الورثة.
ولضمان الفعالية اللازمة، والسرعة المطلوبة في احتواء المشاكل الاجتماعية، والنفسية، والمالية، والإدارية المترتبة على التأخر والتماطل في تقسيم التركة على مستحقيها أصبح من الضروري فتح ورشة دراسية لاقتراح إجراءات عملية تسرع من وثيرة معالجة قضايا الإرث التي ملأت رفوف الحاكم المغربية، وأرهقت الإدارة والمجتمع على حد سواء، وفي هذا الصدد أستمد مشروعيتي من واقع الحال، وأتجرأ على محكمتكم الموقرة لأقترح: ضرورة تخصيص محاكم خاصة بالإرث، ويتم تحديد الفترة الزمنية لقسمة التركة بالتراضي بين الورثة، على ألا تتجاوز ثلاثة أشهر بعد وفاة الهالك، وإلا أصبح من الضروري أن تتدخل المحكمة المختصة وتقوم بقسمة التركة في اقرب الآجال، وتمكن ذوي الحقوق من حقوقهم الشرعية، رفعت الجلسة للمداولة، وربما يحكم القاضي بضرورة إعادة النظر في هذه القضية الإرثية.