دلت الشواهد الأركيولوجية المكتشفة بضواحي القصر الكبير على قدم التعمير بهذه المنطقة نظرا لما تتميز به من خصائص طبيعية ملائمة كانبساط السطح وخصوبته، ووفرة المياه متمثلة بالخصوص في نهر اللوكوس، وهو ما أهلها لأن تكون على الدوام قبلة لكل الأقوام والشعوب الطارئة على المغرب.
وهكذا فإذا كان الحسم في أمر تواجد الفينيقيين بموقع القصر الكبير لم يتم بعد فإنهم كانوا بدون شك على معرفة به من خلال تأسيسهم وتمركزهم بمدينة ليكسوس المجاورة، ومن خلال مقبرة تابعة لهم عثر عليها بمكان يسمى “عزيب السلاوي ” على بعد خمسة كلم فقط من القصر الكبير .
في المقابل فإن استيلاء الرومان عليها تؤكده المصادر التاريخية والآثار المكتشفة بها، حيث تتحدث عن قيامهم ببناء حصن جديد تحت إسم “أبيدوم نوفوم” أو “القلعة الجديدة” في مكان يرجح أنه موقع القصر الكبير على الطريق الرابط بين طنجة ووليلي، كانت مهمته الدفاع عن المستوطنين الرومان ضد هجمات السكان المحليين.
ورغم أن تاريخ التأسيس غير مضبوط فالمرجح أنه تم بين سنتي 211 و 217 م وأن الحصن شكل أول نواة عمرانية لهذه المدينة . ويستند هذا الرأي على إثبات أٍركيولوجي يتمثل في أن صومعة المسجد ألأعظم زمن الموحدين قد تكون بنيت على أنقاض كنيسة رومانية قديمة ترجع الى القرن الثالث م، وأن الجزء ألأكبر من الموقع الروماني لا زال تحث الرواسب الناجمة عن تعاقب فيضانات نهر اللوكوس .
ويلف الغموض كذلك تأريخ تأسيس هذه الحاضرة في العهد الإسلامي بسبب قلة المعلومات من جهة وتضارب ما توفر منها من جهة ثانية، وهكذا فإذا كان أبو القاسم الزياني “صاحب الترجمانة الكبرى” ينفرد بالإشارة الى أن تأسيسها كان على يد أمير قبيلة كتامة عبد الكريم سنة 102هجرية، فإن مصادر أخرى غير عربية استندت في الغالب على كتاب “وصف إفريقيا ” للوزان تنسب ذلك الى السلطان يعقوب المنصور الموحدي أواخر القرن 6ه/12م ، ويورد في شأنها حكاية طريفة (ص 34 ج1) مفادها أن هذا السلطان فوجئ أثناء رحلة صيد في المنطقة بأمطار ورياح قوية وظلام حالك، فافتقد حرسه وظل واقفا لا يقوى على الحركة خوفا من أن يغوص في المستنقعات، فصادف لحسن حظه صيادا اصطحبه معه الى كوخه وأكرم وفادته دون أن يتعرف عليه.
وفي الصباح دله الصياد على الطريق فشكره المنصور وكشف له عن شخصه. ولمكافأة هذا الصياد أمر السلطان ببناء مجموعة من القصور والمنازل وحصنها بأسوار ثم نصب الصياد أميرا عليها. لا يحيل الوزان في سرد حكايته على أي مصدر ولا يستبعد أن تكون من نسج السكان لكثرة ما ارتبط إسم يعقوب المنصور بهذه المدينة .
وترجح كثيرا من الأبحاث أن يكون التأسيس مابين القرنين الثالث والرابع الهجري وهي الفترة القريبة من إستقرار قبيلة كتامة البربرية على منابع ورغة قادمة من المغرب الأوسط، وأن المدينة قد تدرجت من مجرد سوق أسبوعي الى سوق دائم ثم إلى مركز حضري حمل اسم قصر كتامة لكنه ظل مغمورا أمام إشعاع مدينة البصرة المجاورة عاصمة إمارة بني القاسم بن إدريس، كما عرف أيضا ب” قصر عبد الكريم ” نسبة الى عبد الكريم بن عبد الرحمان بن العجوز الكتامي الذي قتله المرابطون ( محمد حجي هامش ص 426 الحركة الفكرية في عهد السعديين ج 2) وأخيرا أطلق عليه يعقوب المنصور الموحدي القصر الكبير لتمييزه عن القصر الصغير، وانفرد إبن خلدون بنعته بقصر دنهاجة.
وقد شهد في العهد ألموحدي توسعا عمرانيا تمثل في تجديد بناء سور المدينة الذي هدمه المرابطون وبناء عدد من القصور، وازداد هذا الامتداد الحضري بالخصوص في عهد المرينيين، بعد أن طال الهدم والتخريب المدن المجاورة لها ببلاد الهبط والغرب، حيث شيدت بها العديد من المرافق الدينية أهمها المسجد ألأعظم الذي يعد بحق معلمة تاريخية كبرى تنتظر أن تتضافر الجهود لفك أسرارها والكشف عن كنوزها، ومرافق علمية كالمدرسة العنانية التي زارها إبن خلدون، وأخرى إستشفائية وغيرها .
وتجمع كل المصادر والدراسات التاريخية على أن معركة القصر أو معركة وادي المخازن (أو الملوك الثلاثة) التي جرت في يوم 04 غشت 1578 هي التي رفعت المدينة وأهلها الى واجهة التاريخ العالمي نظر للدور البطولي الذي اضطلعت به في انتزاع أكبر نصر عسكري للمغرب في العصر الحديث .
إن تاريخ هذه الحاضرة أكبر من أن يختزل في هذه السطور، والأمل معقود في جمع وتوثيق وتدوين هذا التاريخ على كل فعاليات الـمدينة، كما تقع على عاتقها حفظ وحماية الأمكنة والمواقع التي تمثل جزءا من ذاكرة ساكنتها .