عندما دخلنا المسجد كان الناس قد فرغوا من صلاة العشاء وشرعوا في ذكر الله عز وجل. صلينا العشاء، وجلسنا للمشاركة في الذكر.
كان أفراد قلائل شكلوا ما يُشبه حلْقة صغيرة بجوار المحراب، في حين انتثر أفراد آخرون في زوايا المسجد. أنظر إلى الوجوه فإذا الناس من فئات عمرية متنوعة..شباب، وكهول، وشيوخ، وأطفال كثيرون في عمر الزهور يرتدون عباءاتٍ تُشعر الناظر إلى لابسيها أنهم في طور حفظ كتاب الله. بعض الأطفال انتسبوا إلى الحلقة الصغيرة، وآخرون آثروا، مثلنا، آخر المسجد أو زواياه.
وانخرطنا في ذكر الله عز وجل باسم اللطيف:
– يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف…
تخيلتُ المغاربة داخل القرويين يرددون اللطيف احتجاجا على المستعمرين الفرنسيين حينما أصدروا الظهير البربري ليفرقوا به بين المغاربة، العرب منهم والأمازيغ..
-“اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”.
وانثالت على ذهني صورة الأديب والمفكر عبد الكريم غلاب وهو يجيب عن سؤال لأحد الصحافيين في برنامج تلفازي، فيذكر أن أباه اصطحبه إلى مسجد القرويين لقراءة اللطيف اعتراضا على الظهير المذكور، وقال له: “ينبغي أن تحضر كل يوم إلى هنا لتقرأ اللطيف مع الناس”.
– “توقف يا أبا الخير”!
أمرتُ نفسي، وأضفت معللا: “ليس المقامُ مقامَ استحضارٍ للمحطات التاريخية والأحداث السياسية، أنت الآن في بيت الله تعالى، في ليلة لذكره وشكره وعبادته، فلا تَصْرفنَّك عن هذا الصوارف”.
حاولت أن أحصر فكري في هذه اللحظة الروحية، وأغمضت عينيّ قليلا، واستحضرت بعضا من أخطائي وذنوبي، وأطلقت لساني مع الذاكرين “يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف…”، وأنا أسأله سبحانه التوبة، والعفو، والهداية إلى صراطه المستقيم.
من أفراد “الحلقة المحرابية” شيخٌ ذو لحية بيضاء بيده سُبْحة يَعُدّ بها الأذكار عَدّا، وكلما وصل العَدّ إلى عدد معين أطلق لسانه بذكر جديد..أذكارٌ تتمحور حول توحيد الله، وشكره، ودعائه، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، مع خُلوّ الأجواء من الشيخ ومن الرقص كما في بعض الزوايا الصوفية.
بين الحين والحين يتقدم أحد الحاضرين إلى الحلقة، يقدم بعض المال للشيخ صاحب السُّبْحة أو لمن يجاوره، ويهمس له همسات هي طلب الدعاء له، أو لوالديه، أو لزوجته وأولاده، فتنطلق الألسنة بما تيسر من كلام الله عز وجل، ثم يدعو الفقيه للرجُل، ويُؤمِّنُ الحاضرون، ليعودوا إلى الذكر من جديد حتى يوقفَهم راغبٌ آخرُ في الدعاء له ولمن يحب.
بعد مدة اختتمت الجلسة بالدعاء لجميع الحاضرين وللمسلمين كافة، ونهض الرجل ذو السبحة، وودّع بعض أصحابه، وانصرف.
كان الناس ما يزالون يتوافدون على المسجد وحدانا وفي صحبة أبنائهم. دخل أطفال وشباب، ووضعوا مناديلَ من بلاستيك في مواضع اجتماع الناس، ثم جِيءَ بالخبز البلدي وأكلة “البيصرة” المشهورة.
تحلقنا حول طبق “البيصرة”أنا ومصطفى ورجلٌ من أهل المدشر وعدد من الأطفال. طبقٌ واحد يجمعنا، مثلما يجمعنا مكان واحد، وذِكرٌ واحد، ومعبود واحد..لا فوارق هنا، ولا تفاضل..كلنا فقراء إلى عفوك ولطفك يا الله، فاعف عنا، والطف بنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين!
بعد “البيصرة” وُزعت كؤوس الشاي، وبدأ الاستعداد للذكر مرة أخرى. رأيت رجلا يوزع على الحاضرين كراسات يضم كلٌّ منها شطرا من القرآن الكريم..”هي الخَتْمة إذاً (السُّلْكة)”، وأشرتُ إليه فسار إليّ، ومنحني ومصطفى كراستين. كان من حظي الجزء الواحد والعشرون من القرآن الكريم، وانطلقت أتلو نصيبي من الختمة القرآنية الجماعية لنعود بعدها إلى الأدعية والأذكار.
شخصان في هذه الليلة أثارا انتباهي، وما زلت أستحضرهما وأنا أكتب هذه الرحلة:
أولهما: رجلٌ في أواخر الأربعين، فيما قدّرت، يحمل قنينة كبيرة من ماء وكأسا، ويمرُّ بجوار الحاضرين فردا فردا، يسقي الراغبين في شرب الماء وهو مبتسم، ثم يجلس بعض الوقت، ليمر من جديد بالحاضرين الذاكرين في غير كلل ولا ملل.. وكلما فرغت قنينتُه أو كادت تفرغُ غادر المسجد ليملأها، ثم يعود لأداء مهمته في هدوء، وصمت، وابتسام..
وثانيهما: “الدَّلال”، وقد بدأ عمله في آخر الليلة، إذ شرع يحمل ما كان أُهْدِيَ للمسجد من خبز، وسكر، وشاي، وملابس، شيئا فشيئا، ويَعرضه على الحاضرين، لمن شاء منهم أن يشتريه ويتبرك به، لأنه وُضع داخل المسجد – قريبا من المحراب – وتُليَتْ بوجوده آياتٌ وقيلتْ أدعيةٌ وأذكار. وقد كان في هذا “الدّلال” قليلٌ من دعابةٍ لم نملك معها إلا أن نبتسم بسبب ما يصدر عنه من عبارات عند عرضه شيئا للمزايدة. من ذلك مثلا أنه أخذ بيده لباسا نسائيا أهدته امرأةٌ للمسجد، واتجه نحو رجُل مُسِنّ، وضاحكه قائلا: ” ها أنا ألسي العلمي، هاد الشي غزال”! وضحكتُ وأنا أتخيل ألسي العلمي وهو يشتري ملابس نساء!!
سألتُ مصطفى:
– من يأخذ المال الذي يُعطى مقابل أخذ خبز، أو سكر، أو غير ذلك؟
فقال لي:
– يبقى ذاك المال بالمسجد، ويُخصص أغلبُه لشراء ذبيحة وطهيها للناس عند الاجتماع للذكر في الخميس الأول من أحد الشهور القادمة.
وأضاف موضحا:
– إذا اجتمع لهم نصيب معتبر من المال، فإن الليلة القادمة يُطهى فيها لحم خروف أو جدي… وإن لم يجمعوا مالا كافيا لشراء ذبيحة اكتفوا بأكلة “البيصرة”.
تُلي دعاء الختم، وغادرنا المسجد إلى ساحته، فكان الناس يطهون لحم الجدي. شاركناهم العشاء، ثم رافقنا السيد الفقيه عبد الكريم شقور إلى منزله حيث بتنا في ضيافته حفظه الله تعالى، وأكرمه، وبارك له في الصحة والأهل والأولاد.