كوثر حياتي
بحثت في كل العناوين عن عنوان يربطني بها بعدما اشتد الحنين والاشتياق، ماوجدت عنوانا، كل العناوين صارت لاغية، موحشة بعد غيابها، مؤلمة بعد رحيلها، واصلت البحث عساني أعثر على حبل ودود يرق لحالي، يصافح كفي، يمسح دمعي ويحط بي في العنوان المناسب الذي يجدد علاقتي بها ويمنحها التمدد والاستمرارية إلى ما لا نهاية.
لا أطمع في رؤيتها – رحمة الله تعالى عليها – لأن صورتها لا تفارق خيالي أصلا، إنما أتوق للحديث معها والسؤال عن أحوالها وقد انتقلت إلى بعيد، لتسكن عالما نجهل عنه نحن معشر البشرية كل شيء إلا ما أخبرنا به رسولنا الكريم محمد صلى الله عله وسلم.
في كل جمعة، تسبقني أقدامي إلى حيث يرقد جثمانها، لا أتصور أسبوعا يمر دون أن أذهب إلى قبرها، إنه العنوان الواقعي الوحيد الذي أصبح بحوزتي، اتخذت منه صديقا لأنه يضم قطعة مني.
نعم .. أنا التي كنت أهاب دخول المقابر من هول ما قرأت عنها وعن عذاب القبور وما ينتظر الخلائق هناك، ماعاد يخيفني شيء، تساوت الأمور بداخلي، وربما أضحى ما بخارج المقابر مبعث هلع أكثر لي، لأني أرى الأنام باتوا في غفلة مما سيقابلهم عاجلا أم آجلا، وهم يلهثون لهثا خلف جمع الثروات بالطرق السليمة والأخرى غير السليمة ويجرون خلف بلوغ مكاسب دنيوية بشتى الوسائل في انشغال تام عن أمور الدار الأخرى التي تجسد الخلود والبقاء.
بعنوان آخر ذي مقام عال، محفوظ في الصدور، مشهور بين العالمين، ذي شأن عظيم ومنزلة أعظم، وضعت أوزاري واسترحت، تخلصت من آلام باتت تسكنني، ومن أشجان تأكل جسمي النحيل أكلا، ومن ذا الذي لا يجد الراحة والطمأنينة في كتاب الله عز وجل ؟
سورة الكوثر ..نحفظها جميعا عن ظهر قلب، ونهر ” الكوثر” نتمنى كلنا لو يسقينا رب العالمين من مائه العذب، بين السورة القرآنية الجليلة والنهر العظيم أوجدت لحبيبة قلبي الراحلة ” كوثر ” مسكنا وعنوانا وقد غادرت كل المساكن والعناوين، أواسي نفسي المثقلة بالأحزان والذكريات الجميلة التي لم يبق منها إلا الأثر، وأنا أرتل الأولى ( سورة الكوثر ) ينشرح صدري ويفرح قلبي وترتاح نفسيتي، وأنا أقف عند اسم النهر ( نهر الكوثر) تجدني أمطره السؤال تلو السؤال عن عروس تحمل إسمه، وعن ملاك أحسبها واقفة على ضفافه تروي ظمأها بعد عطش دنيوي مر وقاس.
أتخيلها تحييني من هناك في ابتسام، وتقول لي أنا بخير وربي يرعاني أكثر من الأول لأنني تركتكم وجئته وحيدة من دونكم، تنساب دموع عيني وأرد عليها: إنك في المكان الأفضل، وبين يدي رب كريم رحمان رحيم قال وقوله الحق: ” ورحمتي سبقت غضبي”، رب سد أبواب المواجع بأن وصف نفسه بأنه أرحم بالعبد من رحمة أمه به، وماذا بعد هذا الكلام الإلهي الراقي المطمئن!!
سبحانه جل وعلا وتعالى وتسامى، قوله حق، وفعله حق، ووعده حق، ووعيده حق، لا إله سواه، نحمده ونشكره في كل الظروف والأحوال، ونسأله أن يلهمنا الصبر الجميل الذي تطيب به الخواطر وتجبر به الانكسارات.
كوثر .. فخامة الإسم تكفي، ورمزية التسمية علامة تحمل الخير والتفاؤل، وإن ظننا بربنا لحسن حسن، وما خاب عبد أحسن ظنه بالله تعالى.
جمعنا الله بك أختي الحبيبة في جناته جنات النعيم مع نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.