كان والدي شديدَ الولع بأمّ كلثوم، كثيرَ الإنصات إلى أغنياتها، دائمَ الترنُّم بها داخل البيت وخارجَه.
كان رحمه الله يقصد أحيانا متجرا لصديقٍ له كان يعملُ بالإطفاء (POMPIER/ البومبيرو)، وهو متجرٌ خاص ببيع أجهزة التلفاز، وآلات التسجيل، وأشرطة الغناء، بشارع الحسن الثاني بأصيلا، يقع بين مطعم ميرامار وطاحونة كانت تُعرف عند الأصيليين بـ”طاحونة البودالي” (1). هناك رأيتُ والدي مراتٍ عديدةً يجلس على كرسي قرب باب المتجر منتشيا بصوت أم كلثوم وهو يُطرب المارة والعاملين بالمطاعم المجاورة.
كان الطربُ يبلغُ بوالدي مَبْلَغاً يُرى معه مُغمَض العينين، رافعاً صوته مرددا مع “كوكب الشرق” مقاطعَ من أغنياتها، مندمجاً في عوالم الكلمات وروعة الألحان وجمال الصوت، غيرَ مُبالٍ بالمارين بجواره، ولا عابئ بنظراتهم إليه أو سماعهم لصوته ورأيهم فيه!!
كانت لحظات الإصغاء إلى أم كلثوم لحظاتِ متعةٍ خالصة وفقدانٍ شبه كامل للإحساس بما يعتمل خارج النفس.
كذلك كانت حاله داخل البيت عند تشغيلنا، أنا وأختي، لشريط من أشرطة “سيدة الطرب” التي وجدناها في أدراجه إلى جانب أشرطة عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب.
من خلال والدي – رحمه الله – أحببتُ أغنيات أم كلثوم. ومن خلال أشرطته [أشرطة الكاسيت] حفظت عددا من أغنياتها وأغنيات “العندليب الأسمر”، وصرتُ أستمتع بسماعها، والترنم بها وحدي، أو مع أختي، أو صحبة بعض الأصدقاء بثانوية وادي الذهب في مرحلة لاحقة.
قادني حبّ أم كلثوم وعبد الحليم، وحفظي لكثير من أغنياتهما، إلى الولع بأغنيات ماجدة الرومي، وكاظم الساهر، وأصالة نصري، وآخرين من الذين يُغنون القصيدة العربية أو الأزجال الفنية.
“رباعيات الخيام”، “أغدا ألقاك”، “الأطلال”، “أراك عصي الدمع”، “لِسَّه فاكر”، “بعيد عنك”، “ودارت الأيام”، “قارئة الفنجان”، “فاتت جنبنا”، “زي الهوى”، “أهواك”، بتلوموني ليه”، “كامل الأوصاف”، “على قد الشوق”، “توبة”، “كن صديقي”، “كلمات”، “قولي أحبك”، “علمني حبك”، “أشهد أن لا امرأة”، “ونسيت دائي”، “زديني عشقا”، “اغضب”، “اللي نساك انساه”: هذا بعضٌ مما حفظته وطربتُ لسماعه مراتٍ لا يُحصيها العَدُّ.
وحينما ذهبتُ إلى نواحي الرشيدية للعمل أستاذا عام 2003م، لم يكن لي من مؤنس سوى بعض الكتب، وأشرطة لأم كلثوم لا أملُّ سماعَها ومعاودة السماع.
وعلى امتداد أعوامي في التدريس، كنتُ أدعو تلاميذي – كلما سمح المقام – إلى سماع القصائد المغناة وحفظها. وما أكثرَ ما ذكرتُ لهم عناوين ومقاطعَ مما أحفظه من قصائد مغناة، وبينتُ لهم أنهم بحفظها يَحفظون نُصوصا شعرية، فيُغْنونَ رصيدهم اللغوي، ويرتقون بنفوسهم في عوالم الكلمة الشعرية الهادفة.
ولستُ في دعوتي تلك بصاحب رأي، ولكني ناطقٌ بما تشرَّبتُه من الذوق الموسيقي لوالدي رحمه الله تعالى. هذا الذوق الذي كان له عليَّ فضلٌ في مجال الكتابة، إذ ساعدني على اكتساب زادٍ لغوي، وأمكنني من قياس المُحْدَثِ من الأغنيات على القديم الأصيل، والتنبُّه، بواسطة القياس، إلى بعض ما في المُحْدَثِ من أخطاءٍ، والتنبيه على ذلك في بعض ما كتبتُه من مقالات في اللغة.
والدي الحبيب رحمك الله
شكرا لأنك أغرقتني في حُبّ القصيدة المُغنّاة، فلولاك لما ميّزتُ بين قول إبراهيم ناجي:
يا فؤادي لا تَسَلْ أينَ الهَوى **** كانَ صَرْحاً منْ خَيالٍ فهَوى
اسْقِني واشرَبْ على أطلاله **** وارْوِ عنّي طالما الدَّمعُ رَوى
وبين قول القائل: “اعْطِني صاكي بْغيتْ نْماكي” ونحوها من الكلمات العَليلة.
لَوْلاكَ، والدي الحبيب، لما ميزتُ بين هذا وذاك، ولاسْتَوى عندي الماءُ والهباء.
رحمك الله تعالى، وأسكنك فسيح جناته. اللهم آمين.
ابنك وتلميذك ومحبك أبو الخير
—————
(1) تحولتْ إلى مَتجر منذ مدة، ولم يبق بالمدينة إلا طاحونة واحدة هي الموجودة بـ”حومة الشافعي”.