تلقت أسماعي هذه العبارة كثيرا، ومن شدة تكرارها اعتقدت أنها صحيحة، و حسبت أن أبناء القصر الكبير الذين غادروها في اتجاهات مختلفة بجهات المملكة أداروا ظهورهم عنها وتبرأوا منها فعلا، وتنكروا لها مثلما يتم الترويج، كنت ألقي بلومي مع القائلين، وأعتب على كل قصراوي انصرف لخارج المدينة وفضل الإقامة بعيدا عنها دونما التفكير في العودة إليها.
لم أكن أعرف أن بمدينتي أشباح مخيفة تطارد كل إبن وفي مخلص محب لها بصدق ودون تصنع، لم أكن أدرك أن أعداء النجاح يحتلون مساحات شاسعة بها، لم أكن أعلم أن جل من رحلوا عن مدينة القصر الكبير من أبنائها البررة إنما رحلوا مجبرين مكرهين بعدما فاض الكيل بهم، وضاق صدرهم، ولم تعد لهم قدرة أكبر على تحمل البؤس الذي يكبلها من كل الجوانب.
في مدينتي الكراهية والحقد يوزعان بالمجان، والقهر والظلم والجحود يقدمون على طبق من فضة، إن كنت هزيلا ضعيفا محدود القدرات، صفقوا لك وتظاهروا بتشجيعك ومن خلف ظهرك تغامزوا وتنابزوا عليك، وسخروا واستهزأوا، وإن كنت متميزا شنوا عليك حربا ضروسا، وهاجموك هجوما شرسا، وبخسوا جهودك وقللوا من شأنك، وأمطروك أباطيل وأكاذيب وألسوك تهما، وقاتلوا قتالا لأن يسقطوك كي يرتاحوا ويهنأوا بانكسارك.
في مدينتي صديقك يقلب عليك عدوا بمجرد رؤيتك تنجح وتحقق طموحاتك، هو نفسه الذي كان بالأمس القريب يثني على طاقتك وينوه بمؤهلاتك ويفتخر بصداقتك، بقدرة قادر تحول إلى عدو مقنع، يمجد بك في الحضور، ويطعنك طعنا في الغياب، وما أوجع طعنات الأصدقاء الأعداء !!
ما تمنيت في حياتي أن تكون مدينتي التي أحب، ومدينتي التي أجد وأكد من أجل أن تكون في أعلى مستوى، ما تمنيت أن يكون هذا حالها وواقعها الكئيب.
جالست كثيرا من أبنائها المرموقين البعيدين عنها في مناسبات عدة، فاكتشفت أنهم لم يغادروها فرحا وسعادة، إنما ذاقوا من نفس الكأس الذي نروى منه نحن حاليا، حوربوا، هوجموا، وضع الحجر في طريقهم لعرقلة مسيرهم، قذفوا بالطوب كما لو أنهم مستوطني أرض ليست من حقهم ، فلم يكن أمامهم إلا لملمة الجراح والفرار إلى وجهات مختلفة.
شقوا الطريق من البداية ، وفي أماكن هادئة لا يشوش فيها أحد على راحتهم، اشتغلوا بحرية، كونوا أنفسهم ونجحوا في إثبات ذواتهم، فرح المحيطون بهم وبنجاحهم، لم يعلنوا الحرب عليهم بل تقبلوهم وآمنوا بإنجازاتهم، وخصصوا لهم محافل وأمسيات متميزة علت فيها صورهم وترددت أسماؤهم كالنجوم.
قصراوة تنكروا لمدينتهم، كلام غير صحيح، إنهم رحلوا بحثا عن مكان أريح وأناس أفضل، هاجروا المدينة تحقيقا لأهدافهم وطموحاتهم بيسر وسلاسة ودون ملاحقة وبغض وحسد، آثروا الإقامة في بلدان غريبة ينعمون فيها بالتقدير والاحترام على العيش بمدينتهم الأم في القهر والمهانة وسوء التقدير، حب المدينة ساكن بضلوعهم، والحنين إلى أحضانها حاضر..
قبل أن نرمي المنصرفين عن القصر الكبير من أبنائها بالجحود، لا بد من الإقرار بأن الجحود سبب من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هجرانهم، وقبل أن نلعن المبتعدين عن أسوار القصر الكبير من أبنائها وجب الوقوف على الأخطاء الفادحة التي يرتكبها القصراوي في حق أخيه والفضاء الواحد يجمعهما، وقبل أن نفتح أفواهنا بالسوء في حق من برز من أبناء القصر الكبير خارجها ولمع إسمه في مجال من المجالات، وجب استحضار أن هؤلاء جدوا وكدوا وشمروا عن سواعدهم واعتمدوا على أنفسهم فأقنعوا من حولهم وآمنوا بقدراتهم وفسحوا لهم المجال، على عكسكم أنتم، كلما اتقدت شعلة بالمدينة أطفأتموها بغلكم وحسدكم ولم يرتح لكم بال إلا وأنتم ترونها تئن وتتألم وتذرف الدموع وتذبل.
أعرف أن القصر الكبير كمدينة هي بريئة مما يدور بها، لا ذنب لها فيما يلحق أبناءها البررة من أذى على أيدي من هم في منزلة إخوة لهم، لكن كما يقول المثل الشعبي : ” لا قط يفر من دار العرس”.
تعلموا الحب وقدموه لغيركم، رزق الفرد بيد الله لا بيد العبد، والله إن أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون، فلا تظنوا بشروركم أنتم منتصرون . خابت مساعي كل إبن مدينة حقود أناني يفرح لحزن أخيه، ويسعى لإفشال كل جهوده، ويعرقل مسيرة نجاحه. هم المجرمون بحق المدينة المذنبون الآثمون، وهم الباكون الشاكون سبحان الله.