كثيرة هي الكتابات الصحفية، الورقية والإلكترونية، التي أضحت عرضة للنسيان وللتواري. وكثيرة هي الأعمال المنشورة بالمنابر الإعلامية التي لم تعد تذكر بعد أن تحولت إلى جزء من الماضي ” الذي كان “. وكثيرة هي الكتابات الرصينة التي لم يلتفت لها المتتبعون للشأن الثقافي الوطني والنقاد والمهتمون، بحكم اندراجها في سياق الكتابات ” اليومية ” المرتبطة بهواجس التفاعل الآني للكاتب مع واقعه ومع محيطه ومع تحولات هذا الواقع. وكثيرة هي الأعمال التي أحسنت التقاط تفاصيل المرحلة، لكنها أصيبت بآفة الإهمال بعد أن طواها النسيان وبعد أن تحولت إلى جزء من ماض ” ورقي ” لعنوان صحيفة صدرت في فترة زمنية معينة وفي ظروف خاصة. وفي المقابل، فإن تجميع شتات الكتابات العميقة التي تسعى لخلق شروط التأصيل المعرفي والنسقي لتفاعل الذات مع محيطها ومع عطاء هذا المحيط، أضحت أعمالا مرجعية في التوثيق لتحولات المرحلة ولإبدالات تمظهر الوعي الجماعي في قراءة السياقات والأحداث والرموز والإبداعات. بمعنى أن هذه الكتابات التصنيفية المكونة لحصيلة التجميع النوعي لما ينشر صحفيا، تقدم الكثير من عناصر المواد الخام لجهود دراسة تحولات التاريخ الثقافي وعطاء تاريخ الذهنيات، سواء في خصوصياته المحلية الضيقة، أم في امتداداته الوطنية – وربما الدولية – الواسعة.
مناسبة هذا الكلام، صدور العمل الجديد للأستاذ أبي الخير الناصري عند مطلع السنة الجارية ( 2015 )، تحت عنوان ” وردة في جدار “، وذلك في ما مجموعه 197 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. فالكتاب، الصادر ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، يشكل تجميعا تصنيفيا لسلسلة المقالات التي سبق للمؤلف أن نشرها في العديد من المنابر الإعلامية، الورقية والإلكترونية، وكان لها صداها الواسع لدى المتتبعين، لاعتبارات متعددة، لعل أهمها مرتبط بشخصية المؤلف نفسه، كباحث متمكن وكمتتبع حصيف وكحامل لرسالة ” الكتابة ” بأبعادها الإنسانية والجمالية والأخلاقية الواسعة. وهي الصفات التي لن نجد صعوبة في القبض بتعبيراتها المباشرة داخل متون أعمال الأستاذ الناصري التي عرفت طريقها إلى النشر، بدءا من كتاب ” تصويبات لغوية في الفصحى والعامية ” ( 2008 )، ومرورا بكتابي ” في صحبة سيدي محمد الناصري ” ( 2008 ) و” لا أعبد ما تعبدون ” ( 2011 )،
لقد أخلص الأستاذ الناصري في كتابه الجديد لأفق اشتغاله ولمعالم أصالة معدنه في قراءاته النقدية، وفي عمق رؤاه الملتقطة للتفاصيل اليومية للوقائع الثقافية والاجتماعية، وفي تمثلاته وتقييماته لعناصر الخصب والجمال والإبداع والريادة في قراءاته، وهي القراءات التي استطاعت أن تحلق عاليا خارج السرب، بعد أن وضعت لنفسها المسافات الضرورية عن كل أساليب الابتذال والإسفاف والنفاق والافتراء التي أضحت تقليعة مهيمنة على الكثير مما يصدر راهنا من كتابات نقدية أو مواكبة لسوق النشر ببلادنا. هي معالم مميزة في شخصية أبي الخير الناصري، جعلته يمتلك كل الجرأة الضرورية ليرفع صوته عاليا : ” لا أعبد ما تعبدون “، بل ولا أقبل ” بأصنامكم ” وبتحنيطاتكم التي ما هي إلا إحدى مهاوي انزياحات المشهد الثقافي الوطني الراهن.
وكتاب ” وردة في جدار ” ينسجم – تماما – مع هذا الأفق المشرع على رحابة فعل التأمل المبادر والمتحرر من ولاءاته ومن انزياحاته، حسب ما توضحه الكلمة التقديمية التي يقول فيها المؤلف : ” يضم هذا الكتاب مقالات أثار بعضها جدالا وسجالا، ونشر أغلبها بين العامين 2005 و2014 بمنابر ورقية ومواقع إلكترونية متعددة … وقد قمت بجمعها هنا لغايات من أهمها : حفظها من الضياع، وتوفير نافذة جديدة لعرضها على القراء، والمشاركة في التوثيق لبعض القضايا التي شغلت الناس زمنا والمساهمة في مناقشتها .. وإنما سميت هذا الكتاب ” وردة في جدار ” لأني رأيت في كثير من مقالاته مناقشة لآراء وأفكار يستقوي أصحابها بالمنابر، أو الجمعيات، أو الأحزاب، أو رسوخ العادات .. فيستحيل كل رأي أو فكرة منها إلى ما يشبه جدارا منيعا يصعب هدمه. ولما كنت من عشاق مواجهة الفكر بالفكر، والرأي بالبرهان، فقد اعتبرت كل مقال من مقالات الكتاب وردة أغرسها في جدار الأفكار المسلحة بالجمعية والحزب والعادة المستحكمة .. لعل هذه الورود تسهم في تشقيق الجدران وإسقاطها … ” ( ص ص. 11 – 12 ).
وعلى أساس هذا التصور، انسابت مضامين العمل عبر ثلاثة محاور متكاملة، بعناوين دالة : ” في الكتابة والكتاب ” و” بين البشر والفكر ” و” أسماء وظلال”. وقد حرص المؤلف على تضمين كل واحدة من العناوين المذكورة خلاصة تجاربه ورؤاه ومواقفه من قضايا متعددة في الشأن الثقافي والاجتماعي، من قبيل رده المتميز على دعاة التلهيج في نظامنا التعليمي وعلى رأسهم نور الدين عيوش، أو صرامته في التعاطي مع آفة السرقات الأدبية من خلال حالات محددة، أو جرأته في مقاربته لقضايا اجتماعية ذات حساسية مفرطة مثل مدونة الأسرة، وفساد المجتمع ونزوعات ربطها برجال التعليم، والموقف من عقوبة الإعدام، وتحولات المشهد النقدي بالمغرب، والاحتفاء برموز الفكر والإبداع ممن كان المؤلف على صلات مباشرة بعطائهم وبإسهاماتهم الثقافية، من أمثال عبد اللطيف شهبون وعبد الصمد العشاب ومغيث البوعناني ومصطفى المهماه ومحمد أبو الوفاء …
وفي كل المستويات التي أثارها المؤلف في قضايا الكتاب المتداخلة، ظلت رؤاه الفاحصة مجالا لتصريف قناعاته تجاه مختلف المضامين. فحسه النقدي أضحى صارما، لم يهادن أحدا ولم يجار أهواءً، بل أخلص في الوفاء لقناعاته، وتلك سمة الكتاب المجددين والمفكرين المبدعين، ممن يتركون بصماتهم الناصعة على سجل العطاء الحضاري، بعد أن ينقشع غبار الزوابع وبعد أن يتبدد زيف الضباب.