ارتشف الرشفة الأخيرة من القهوة المرة، متسمعا لوجيف قلبه المضطرب. ثم قام من على مقعده ليغادر المقهى المتواضع، وهو يغص بمرارة الحسرة، ويجر معه خيبة غير متوقعة، يرافقه طيف وحش أزلي، لا يكف عن القهقهة الساخرة منه. وكان حين دخل المقهى منهكا، تتقدمه كرشه المترهلة، وتجره رجلاه بخطوة نحو الأمام، وأخرى إلى الخلف، قد انطلق الطيف يقهقه متندرا:
ـ شحال يقدك من استغفر الله يا البايت بلا عشا.
فانتابه شعور من يدخل مستشفى مجذومين. نظر بعينين ذابلتين، ملتفتا يمينا ويسارا في توتر ظاهر، كما لو كان يبحث عن شخص ما، ذي أهمية مصيرية خاصة، لم يأت بعد.
استحمل أن يجد زبناء المقهى من معارفه القدماء، منغمسين في لعبة الورق، وفي تبادل نكت ممنوع سماعها على من هم أقل من ثماني عشرة سنة، ومتلبسين بوليمة السخرية اللاذعة من الساسة والسياسة وأصحاب الدولارات ومهووسي العقارات، بينما راح معظمهم يدخن ويرشف ثمالة الشاي في انتشاء، وبين الحين والآخر يدخلون جميعا في موجة هستيرية من الضحك والقهقهة. فيتصورهم صالة عن مخه ونيابة عن بني طينه، قطاع طرق.
لكنه لم يستحمل أن يرفعوا إليه أنظارهم متوجسين مستغربين، وكانه مصاص دماء هبط عليهم من كوكب آخر لا علاقة له بالحي، ولا بجلسات المرح والأنس، والنقاشات المحتدة في المقهى، ولعب الورق. ثم عادوا إلى لعبتهم ونكتهم وسخريتهم ودخانهم وقهقهاتهم، كما لو لم تكن لكل منهم أكداس مكدسة من منغصات مزمنة. ومع ذلك، كان قد ارتاح في قرارة نفسه، لهذا التصرف غير المتوقع منهم، خشية أن يتكالبوا عليه ويبتزوه، أو ينقلوا إليه مرضا معديا ما، أو يلحقوا به لعنة تلطخ مساره السياسي، في حين كان طيف الوحش الأزلي، يجلجل داخل دماغه بقهقهة أكثر سخرية، يسمعها هو وحده.
خفض نظره إلى الأرض. ملامح وجهه تعكس ندما عميقا على شيء ما ضاع. في انكسار بيّن، تقدم نحو طاولة منزوية بركن شبه مظلم. جلس وحده على كرسي مخلخل الأضلاع، ثم استغرق في عالمه الخاص، يملأ نفسه تدمر مريع من رجوع الزبناء إلى جوهم المرح، وارتشاف الشاي في نشوة بين الفينة والأخرى، دون اهتمام بوجوده، معتبرا ذلك لا فألا مناسبا ولا إشارة مشجعة. فاعتراه إحساس عابر سبيل، بدل شعور الابن البار بحيه القديم. ردد في قرارة نفسه: ربما لم يتذكرني هؤلاء الصعاليك. وسيكونون في منتهى اللؤم لو كانوا يذكرونني، لكنهم تعمدوا تجاهلي. ألا يكفيهم أنني أتيت برجلي، لأحيي الرحم معهم في زرائب حيهم، السادر في الإخلاص لواقعه البئيس؟. فقهقه الطيف: وماذا بعد؟
كان الطبيب المختص قد صعقه بنصيحة، تعيد إليه الذاكرة المنسية، فرفضها أول الأمر استكبارا. أبى إلا أن يظل مفردا في أعلى عليائه ذات العماد، يجتر الدولارات الخضراء، ويعدد أملاك قارون المتراكمة، ويعقد الصفقات المشبوهة، ويستحلب المواسم البورصوية الطاحنة، ويخطط للبقاء في البرلمان مدى الحياة، عبر حملات انتخابية، يعرف قبل غيره كيف ينجح فيها، متمردا على أي صدى يعيده إلى ماضيه في حيه القديم.
غير أن حظه السيء، أركبه أرجوحة التساؤل المدوخ، حول الثمن الذي قدمه من عمره، لقاء أرصدة حياته الفرعونية، مدركا أن الوقت قد حان ليقضم أصابعه، على ماض مديد انفرط بشره وشرهه، في منتهى السرعة. فاستفاق الوحش الأزلي المشؤوم داخله، وشرع في تسليط ضغطه على كيانه. إذ اكتمل طوق الحالة المستعصية، ونبتت على لسان الوحش الكريه، أشواك الأسئلة المتوعدة في تشف، منبت نخر لدماغه، ونهش لثقته العمشاء في ممرات هشة، كان يمشي فيها مكبا على وجهه، كل الأوقات، وفي نومه ويقظته، بينما كان يظنها صلبة، ويظن نفسه أهدى وأرشد، موهما إياها بأنه لا يعتصم بحبل الخسران المبين.
والآن، ماذا بعد يا بطل؟. أين ثقتك الحديدية في قدراتك المترامية الضفاف؟. ها أنت قاب غفوة أو أدنى أيام، من انتهاء اللعبة المستنزفة ربحا وخسارة. فماذا فعلت لك أوثانك السحرية الساحرة، المكدسة في مغارات علي بابا الشرقية والغربية؟. هل أنبأتك حاسة أنفك المتعودة على الانحشار في كل أمر، أنها يمكن أن تصير بقدرة قادر أحجبة معجزة، تجعلك تضحك من القلب؟ أو تقطف وردة في إحدى مزرعاتك وتشم رحيقها بعمق إلى حد الدوار؟. أم تراها تتيح لك حين تهجع إلى فراشك ليلا، نوما مريحا دون أن تغوص في فم كوابيس، تنشط فيها الجن والشياطين والغيلان، وتنفتح آبار عميقة مظلمة، وأنفاق ضيقة طويلة، ومغارات موحشة، وتنفلق جبال وبحار وغابات، يتدفق منها عمالقة وأقزام يحاصرونك مزمجرين متأهبين لالتهامك، رغم وضع رأسك تحت المخدة؟. أم لعلها تركت لك متسعا من الوقت للتزاور مع الأحباب والأصحاب، ولو في الأعياد؟. أحرى الحنين إلى أنداد الطفولة الشقية بالحي البئيس؟. ليتك الآن تملك على الأقل زوجة تخاف عليك وتخدمك، أو لك صديق حميم يواسيك ويؤنسك. والويل لك، فلم يتدفق من ترائبك ولد صالح يدعو لك، ولا من صلبك ولد صعلوك يخرب بيتك في الليل قبل النهار. بل ستمتص سلالة الطحالب المستنسخة من مشتل طينتك، بحرك وما فوقه وما تحته. لقد لخصت كل مسودة حياتك في متع بطنك وما تحتها كالحمار. والآن لا تريد أن تصدق أن تلك المسودة قد صارت باهتة وآيلة للتلاشي.
قال الطبيب النفسي واثقا: هيا، علق تفكيرك في غرفة جيبك فترة، وهيئ نفسك لنقلة ربما كان فيها تحقيق المراد. فلم تعد سوى جلدة كباقي الجلود المتحركة، محكوم عليها بالطمر، في حفرة لا قرار لعمقها، وسعتها في رحابة المجهول. عليك يا هذا أن ترمي بجلدتك الحالية في سلة المهملات، وتتواصل مع أبناء جلدتك القديمة، مستعيدا روح المرح، وتبادل نكت ما تحت الصرة معهم. ولست أدري لماذا أنت مقلوب هكذا؟ الناس يتشاءمون من المستقبل، وأنت تتشاءم من الماضي. لقد استعصت حالتك الغريبة على كل الأدوية التي وصفت لك. فلتجرب الدواء الوحيد المتبقي. هيا أسرع قبل فوات الأوان، إن لم يكن قد لبس أجنحته وطار إلى حيث لا رجعة، وبئس المصير.
يا لها من نصيحة مغموسة في مكر المشعوذين، من طبيب أفّاك، يهرطق بما لا ينفع مرضاه!. أيمكن أن يكون بعدك عن الأنداد والأصدقاء والعائلة وأشباههم، هو السبب حقا في حالتك المستعصية؟. أي طب هذا؟ وأي دواء؟. لكن؟ لم لا تستسلم؟ إنه طبيب يراقب مئات الحالات المشابهة. ولعله تمكن من تشخيص الكثير منها على الوجه الأدق، وعالجها بهذا الدواء الشديد المرارة على قلبك. ثم ماذا ستخسر إذا جربت ولم تتراخ قبضة الوحش عن أنفاسك؟.
جعل الثلج يتساقط على جثثه المتضخمة، في فصل خريفه الشديد البرودة، وهو قابع في جلسته الصقيعية بالزاوية المغبشة. وبين الحين والحين ينظر في هاتفه المحمول، لكن أحدا لم يتصل، بينما كان زبناء المقهى منخرطين في لعبهم بحيوية ونشاط في عز الصيف، من غير أن يلتفت إليه أو يكلمه أحد.
ولما طالت جلسته أكثر مما كان ينتظر، متظاهرا بتأمل لوحة باهتة معلقة على الجدار أمامه، يتوسطها وحيد قرن هرم تتربص به الضباع، لم يشعر بحرج من أن يراود بصوته المتعب، أسماء بعض اللاعبين، فيما يشبه الابتهال، دون أن يفلح في لفت نظرهم إليه. كانت الضوضاء تحجب صوت النداء الواهي عن آذانهم. ورغم ذلك نقم عليهم. سحقا لكم. فكيف تتجاهلونني إلى هذا الحد؟، في حين أنا رجل الأعمال المعروف، والسياسي المحنك، الذي يسعى الجميع إلى مراضاته والفخر بمعرفته، قد تنازلت وجئتكم برجلي؟.
لم يجد مهربا، من أن يقوم من على مقعده، متفقدا الطاولة بأعين متفحصة، حتى لا ينسى شيئا له هناك. ثم خطا بضع خطوات في تثاقل تجاه باب المقهى. لكنه عاد إلى الطاولة ليتفقد محتوياتها. ثم خطا خطوات في تثاقل. ثم عاد إلى الطاولة ليتفقد محتوياتها، وقهقهة الوحش الأزلي تمعن في سخريتها منه. أخيرا تمكن من مغادرة المقهي، من غير أن ينتبه إليه أو يعبأ به أحد.