بقلم : أبو الخير الناصري
1/ وحيداً تراه أو صُحْبَةَ رفيق أو رفيقين لا غير، كالقِدِّيسين هو في غربته داخل المدينة. قد يظهر في مقهى عَلِيٍّ مساء، أو مقهى وادي الذهب ذات صبيحة يتصفح الجرائد، ويَسْتَبْطِنُ ما وراء السطور. وقد تلقاه ماشيا بمحاذاة الشاطئ وحيدا يصارع أفكاره، ويُبْحِرُ في تأملاته وعوالم نصوصه المكتوبة أو التي هي على مَشَارِفِ الولادة أو النشر. وربما غاب زمنا، ثم أَطَلَّ من صفحة منبر وطني أو جِهَويّ بنصٍّ أدبي أو فكري لا يحاكي فيه غَيْرَ جراحِه وأفكارِه الفريدة الجريئة.
2/ كُلَّمَا رَأيْتُه في شوارع المدينة ارْتَحَلَ فِكْري إلى سنوات الدراسة بثانوية وادي الذهب بأصيلا حيث دَرَّسَني مادة الفكر الإسلامي والفلسفة. لم تكن حصته كالحصص الأخرى، كان أستاذنا عبد السلام الجباري يفتح عقولنا المغلقة على النصوص الفلسفية كما يفتحها على الواقع والحياة. وفي حصته عرفت الأسماء: محمد عابد الجابري، وعبد الكريم الطبال، ومحمد شكري، وپول بولز، وسلسلة شراع…كانت حصته شُرْفَةً نُطِلُّ منها على الفلسفة والشعر والأدب والمشهد الثقافي في المغرب. وإليه يعود الفضل في تقريبنا من هذا المشهد، وربطنا به وبأعلامه، وإتاحة الفرصة لنا- نحن التلاميذَ- للسؤال وللتعبير عن آرائنا في قضايا كثيرة. أذكر أن حصته مَكَّنتِ الكثيرين منا من التحرر من عقدة الصمت خوفا أو خجلا؛ ولهذا ظل دوما محل احترامنا ومحبتنا.
ومثلما كانت حصته الدراسية مختلفة كانت شخصيته أيضا مغايرة، إذ لم يكن مصابا بعقدة “الأستاذية المتعالية”، فقد أَلِفْنَا أن نَلْقَاهُ في شارع مولاي الحسن بن المهدي (El paseo)، أو في ساحة مقهى من مقاهي المدينة، فنُبَادله التحية والسلام. كانت خصاله تلك مثار تعجبي وحيرتي، أقول لوالدي: الأستاذ عبد السلام الجباري يختلف عن الأساتذة الآخرين، فيقول لي إنه سليل عائلة عريقة في القصر الكبير، أبوه عالم من علمائها، أما هو فقد خَبَرَ الحياة عميقا.
3/ عندما صدرت الجريدة المحلية (فصول أصيلة) في 1998م كان ذ.عبد السلام الجباري أحد المداومين على الكتابة فيها. مع كل عدد من أعدادها كنا ننتظر مقاله أو قصته القصيرة بشوق ولهفة، ننتظر أن نرى مَلْمَحاً آخر من صورة أستاذنا غير الصورة التي عهدناها داخل القسم. كنا نرنو إلى رؤية عبد السلام الجباري الكاتب. وفي أغلب مقالاته ظل مرتبطا بمدينته الأم (ثلاث رسائل إلى القصر الكبير/ القصر الكبير: الخبز أم الجمال/ القصر الكبير جدلية الحضور والغياب..). مقالاته تلك رثاء نثري لأمجاد القصر الكبير، ودعوة إلى الاعتناء بالجانب الجمالي للمدينة، ونداء للمسؤولين عن تسيير شؤونها أنْ رِفْقاً بهذه المدينة.
وحتى حينما يلتفت إلى مدن أخرى شمالية كأصيلة، أو طنجة، أو العرائش يظل قلمه وفيا لآلام سكانها، منبها على أخطاء المسؤولين عنها، جاعلا مبدأه في الكتابة “لا لِثَقَافَةِ شُوفْ وسْكُوتْ”. مقالاته ثورة على الفساد في جبهاته كلها، لذا ليس غريبا أن نراه يَحْمِلُ على بعض المثقفين حَمْلَةً قاسية في مقاله “أرواح لكن من ورق” متذمرا من كونهم أناسا “يَتَكَلَّمُونَ في كُلِّ شَيْءٍ، ولا يُغَيِّرُونَ مِنَ الْوَاقِعِ شَيْئاً سِوَى البَحْثِ عَنْ وَسَائِلَ لِتَحْسِينِ وَضْعِيَتِهِم المادية والمعنوية، وَسَدِّ الأبْوَابِ في وُجُوه هَؤلاءِ الشَّبابِ واضْطِهادِ الْمُثَقَّفينَ الْحَقِيقيِّينَ”.
4/ أستاذي الكريم عبد السلام الجباري: مجموعتك القصصية “وحين يكون الحزن وحده” إنْصَاتٌ جيد لآلام المساكين والمقهورين والمخذولين: عائشة، السيد البرناوي، ولد الريفية، كريوكا، روزانا، سوسو..علامات على الشقاء والمعاناة التي يتمرغ فيها “أشخاص كثيرون لا نعبأ البتة بشقائهم”(ص65). إنها انتصار للمهزومين والضحايا المجذفين في أحزانهم وحيدين بلا مؤازر ولا نصير.
أما تأملاتك الثلاثة على هامش نص أرسطو فكل تأمل منها يستحق وقفة متأنية.
بُورِكْتَ وسَلِمْتَ للكتابة والإبداع.