بقلم : د . أبو الخير الناصري
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
في أواخر تسعينيات القرن الماضي قدمت إلى تطوان لمتابعة الدراسة بها بعد حصولي على شهادة البكالوريا. دخلتُ هذه الكلية شغوفاً باللغة العربية وآدابها، راغباً في معرفة المفيد والممتع من الأساتذة الجامعيين والمواد الدراسية. ولقد قدَّرَ الله لي أن أجلس خلال سنوات الإجازة إلى نخبة من الأساتذة الفضلاء كان لهم دور هام في تفتيح الوعي على مجالات معرفية متعددة، أذكر منهم على سبيل المثال السادة الدكاترة: سعاد الناصر، ومحمد مشبال، وعبد اللطيف شهبون، ومحمد الحافظ الروسي، ومصطفى الحداد، وعبد الرحمن بودرع، ومحمد عبد الواحد العسري، وأحمد هاشم الريسوني وآخرين.
كانت معرفتي بأستاذنا د.عبد الله المرابط الترغي – رحمه الله تعالى – خلال سنوات الإجازة معرفةً من بعيد، إذ لم يُقَدّر لي أن أجلس خلال تلك السنوات طالبا في فصل من الفصول أتلقى عنه درسا من دروسه في الأدب المغربي، لكن انطباعا تشكل لديَّ عن الرّجُل من خلال ما كنتُ أسمعه عنه من بعض الزملاء؛ فقد كان – رحمه الله تعالى – محط تقديرٍ عند مَنْ عرفتهم من الطلبة، يُجِلّونه ويسعون للحصول على إشرافه على بحوثهم لنيل الإجازة.
أما أول لقاء لي بأستاذنا الراحل – رحمه الله – فيعود، فيما أذكر، إلى العام 2005م. كان ذلك في مقابلة شفوية اجتزتُها للالتحاق طالبا بسلك دبلوم الدراسات المعمقة في تخصص الأدب العربي في المغرب العلوي، وشارك في تلك المقابلة إلى جانب د.الترغي – رحمه الله – الأستاذان الكريمان د.محمد مفتاح ود.محمد كنون الحسني حفظهما الله.
غير أن التحاقي بالكلية لم يستمر طويلا هذه المرة؛ إذ سرعان ما انقطعت عن متابعة الدراسة بسلك دبلوم الدراسات المعمقة لأسباب من بينها بُعْدُ مَقرّ عملي حينئذ عن الكلية وعدمُ استطاعتي حضورَ الحصص الدراسية كل أسبوع.
وفي 27 من مارس 2011م تجدد اللقاء بأستاذنا الترغي. فقد ذهبت يومئذ إلى مدينة القصر الكبير لحضور ندوة علمية في موضوع “علماء الشمال ودورهم في الحفاظ على الدين والوطن”، وهي الندوة التي شارك فيها إلى جانب الدكتور الترغي الدكتورُ إدريس خليفة، والأستاذان محمد أخريف وعبد المنعم بن الصديق، وقدّم فيها أستاذنا الراحل ورقة علمية عن العلامة عبد الله كنون الحسني رحمه الله.
أذكر أنني جلست، قبل انطلاق الندوة، بمقهى من المقاهي القريبة من المركز الثقافي البلدي. ولم يمض على جلوسي سوى لحظاتٍ قِصارٍ حتى فوجئت بأستاذنا – رحمه الله – يدخل المقهى، فتقدمتُ للسلام عليه. وحينما ذكرتُ له اسمي قال لي: “أشكرك أولا على الكتاب (كان يقصد كتاباً لي أرسلت إليه نسخة منه عبر البريد)”. وأضاف قائلا: “أنت كنتَ طالبا عندنا في وحدة الأدب المغربي. لماذا غادرت؟”.
ولما علم بأن مقر عملي الجديد قريبٌ بعضَ القُرب من الكلية قال لي: “إذاً مرحباً بك مجددا في الكلية”.
كانت كلمته تلك حافزا لي للتفكير في العودة إلى تطوان لمواصلة الدراسية طالبا بسلك الماستر خلال الموسم الجامعي 2011/ 2012م؛ فقُدّر لي بذلك أن أجلس بين يدي أستاذي الكريم طوال موسمين جامعيين استفدتُ فيهما من علمه حول بعض أعلام الأدب والفكر بالمغرب خلال العصر العلوي.
وعندما وقع اختياري، في مرحلة بحث الماستر، على موضوع “كتابة الترجمة بالقصر الكبير: أعلامها ومقاصدها” كان لا بد لي من الاتصال مجددا بأستاذنا الكريم د. الترغي – رحمه الله – لتخصصه المعروف في موضوع التراجم.
ومع أن الرجل لم يكن مشرفا على بحثي هذا، فإنه – رحمه الله تعالى – لم يبخل عليّ بوافر علمه في الموضوع. وقد كانت لي معه جلساتٌ هنا في مكتبه بالكلية، ثم بمنزله بطنجة، جلساتٌ حظيتُ فيها بتوجيهات وإرشادات كان لها واضح الأثر على بحثي، لا سيما من الناحية المنهجية.
وحينما أنظر إلى صلتي بأستاذنا الراحل – رحمه الله – وإلى علاقة مَنْ عرفتهم من الطلبة به، تبدو لي جملةٌ من السمات في شخصيته أحبُّ أن أذكر بعضا منها فيما يلي:
– أولا: ملمح الأستاذ الأب الذي يُحِلّ طلبته محل أبنائه، فيفيض عطفاً عليهم، ويغدق عليهم من محبته الراسخة.
ومما يُجَلي هذه الأبوة الحانية في شخصية أستاذنا عدمُ ضيقه بالسؤالِ، سؤالِ الطلبة إيَّاه، وحرصُه الأكيدُ على توجيههم في مجاهل البحث ودروبه الخفية. كما تجليها أحداث من بينها ما ذكره د.مصطفى الغاشي من تكفل أستاذنا الراحل بوجبة غداءِ لجنةٍ ناقشتْ طالبا من مالي في مستوى الدكتوراه. بل إني أزعم أن هذه الأبوة كانت تطل إطلالاتٍ جميلةً عند مناقشته – رحمه الله – لبعض أطروحات الدكتوراه، سواء منها ما كان عضوا في لجنة مناقشتها أم تلك التي كان مشرفا على إنجازها.
– ثانيا: ملمح الأستاذ العالم المتعبد في محراب العلم. وخيرُ ما يجلي هذا الأمر حرصُه – رحمه الله – على الاستمرار في تقديم الدروس للطلبة رغم إحالته إداريا إلى التقاعد. ولقد كان في ترددِه على هذه الكلية بعد تقاعده، واستمرارِه في إفادة الطلبة درسٌ بليغٌ مفاده أن العالم لا يتقاعد ولا تَحُدُّ عطاءَه إجراءات إدارية مطردة.
– ثالثا: ملمح العالم المستزيد من العلم دوما. ومما أذكره هنا أنني عندما كنتُ أبحث في موضوع التراجم بالقصر الكبير كان أستاذنا الترغي – رحمه الله – دائمَ السؤال عن الجديد من التراجم المخطوطة التي خلَّفها أبناءُ القصر الكبير، حريصاً على الحصول على نُسَخ منها. وكنتُ أُمِدّه – رحمه الله – بما أحصل عليه في هذا الجانب فيفرح بذلك فرحا ملحوظا، ثم يسأل بعد وقتٍ وجيز عما استجد في الموضوع. هذا مع أن صحته في هذه المرحلة من عمره كان قد أصابها اعتلال واضح.
وحينما أتأمل حرصَه هذا على تحصيل العلم بالجديد في موضوع التراجم، مع ما كانت عليه حالتُه الصحية من اعتلال، يُخيَّل إليَّ أن أستاذنا الجليل كان – رحمه الله تعالى – يُلقننا بذلك درساً جميلا أُجْريهِ على لسانه في العبارة الآتية: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، واطلبوا العلم في الصحة والمرض”.
تلكم ملامح من شخصية أستاذنا العزيز، لا أراها كاشفةً عن جميع ما تميز به رحمه الله من المناقب والفضائل الكثيرة، تلك المناقب والفضائل التي أجملها أستاذنا عبد اللطيف شهبون في عبارة جامعة حينما وصف صديق عمره بأنه “نموذج للأستاذية العالمة والإنسانية الشامخة”.
رحم الله أستاذنا الكريم عبد الله المرابط الترغي، وجعله من أهل الجنة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.