من البدع الجديدة التي هبت على بلاد المغرب مع هبوب رياح الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان من بلدان العالم المتقدم بدعة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام.
ولقد تشكل داخل المجتمع المغربي ما يسمى “الائتلاف المغربي من أجل إلغاء عقوبة الإعدام”، وهو لفيف من الجمعيات الحقوقية تشترك في مطلب محدد في ضرورة إلغاء الدولة المغربية لعقوبة الإعدام، حتى تتسق مواثيق الحقوق في هذا البلد الجميل الذي ينص دستوره على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، مع مواثيق الحقوق في البلدان الغربية في أفق تحقيق مطلب كونية الحقوق وشموليتها.
ويعلل بعض الحقوقيين الداعين إلى إلغاء هذه العقوبة مطلبهم هذا تعليلا يحاولون أن يضفوا عليه طابع العقل والمنطق، فيقولون إن هذه العقوبة تمثل نسفا لأهم حق من حقوق الإنسان وأولها، ألا وهو الحق في الحياة الذي يعد حقا مقدسا لا يجوز انتهاكه بأي حال من الأحوال، كما يحاول بعضهم أن يلبس دعواه لباسا شبه إسلامي، فيقولون إن الله تعالى هو الذي يمنح الإنسان حق الحياة، فلا يجوز لأحد من الناس أن يسلب أحدا هذا الحق مهما كانت الدوافع والأسباب.
والواقع أن الذرائع التي يستند إليها هؤلاء الحقوقيون في سياق الحجاج والاستدلال، وإن بدت ذرائع متماسكة ظاهريا، فإنها لا تصمد عند التحليل المعتمد على العقل والمنطق، ثم عند استنطاق النصوص الإسلامية واستقصاء الواقع المعيش.
ورغبة من هذا المقال في مناقشة هادئة ومنظمة ل “حجج” المدافعين عن إلغاء هذه العقوبة فإنه يسلك حواره في النقط الآتية :
– أولا : في ضوء العقل والمنطق
إذا كان السادة الحقوقيون يصدرون عن العقل والمنطق في قولهم “إن الإعدام ضرب لأهم حق من حقوق الإنسان، وهو الحق في الحياة الذي يعد أسمى الحقوق وأقدسها على الإطلاق”، فإن قولهم هذا لايستقيم أبدا، لكونه يتجاهل سؤالا جوهريا ينبغي طرحه قبل إصدار هذا القول، وهو : لماذا وجدت عقوبة الإعدام ؟ وما هي الحالات التي تطبق فيها ؟ ثم أليس من العدل أن تسلب الحياة ممن وضع حدا لحياة غيره من أفراد المجتمع؟
يعترض بعض الحقوقيين، في هذا السياق، بأن هذه العقوبة لا تغير من الأمر الواقع شيئا، فالشخص المقتول لن يعيده إلى الحياة إعدام قاتله، كما يستحضرون تلك الحجة المستقاة من الواقع عن استمرار السرقة رغم وجود نصوص قانونية تجرم هذا الفعل ورغم امتلاء السجون بالسارقين، محاولين من خلال هذا المثال الواقعي إيهام محاورهم بلا جدوى الإعدام.
ونقول ردا على هذا الاعتراض : إن استمرار السرقة رغم النصوص القانونية المجرمة لها لا تترتب عليه أبدا مطالبتكم بإلغاء عقوبات السرقة المنصوص عليها قانونا، بل لعلكم تعتبرون المطالبة بتعطيل معاقبة السارقين ضربا من الحمق، لأن التعطيل معناه أن نفتح أبوابنا للسارقين نهارا جهارا، وهذا ما لا يقول به ذو عقل سليم.
وإذن فلماذا تشطحون بعيدا عن عقلكم ومنطقكم هذا حين الحديث عن عقوبة الإعدام؟ أليس إلغاء هذه العقوبة مدعاة للاجتراء على تهديد الناس في أرواحهم ما دام القاتل لن يعاقب عقابا من جنس العمل، وما دامت السجون في تحسن دائم ومستمر يشمل المسكن، والملبس، والمأكل، وغير ذلك من مطالب السجناء التي تدافع عنها جمعياتكم الموقرة؟
إن كل عقوبة لا تنطوي على شكل من أشكال الحرمان هي عقوبة لا معنى لها، ولا فائدة ترجى من ورائها. وإن من الدوافع التي فتحت فتحت شهية بعض النفوس الشريرة للاعتداء على حقوق الغير هو ما تسمعه وما تعرفه عن تعطيل بعض النصوص القانونية وعن تحسن أحوال السجون تحسنا لا يحقق في نفس السجين وغيره هدف الزجر والردع، وعدم التفكير في معاودة الجرم الذي حوكم بسببه وأدخل السجن .. حتى لقد صار من المألوف أن نسمع على هامش عراك في شارع أو مقهى من يقول “لسوف أضربك وأكسر أنف أمك وأدخل السجن آكلا شاربا مستريحا”، فلم يعد في السجن ما يخيف، ولهذا يتردد مثل هذا التهديد في واضحة النهار.
– ثانيا : تحت نور النص القرآني
ردا على من يقولون إن الله سبحانه هو واهب الحياة، فلا يجوز لذلك سلبها مهما كانت الدوافع، نقول إن الله سبحانه هو واهب الحياة حقا، وهو القائل في كتابه الحكيم ﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب﴾ (البقرة /179) وهي آية وردت في سياق تشريع القصاص، وهو قتل من قتل غيره متعمدا، وبيان أن الحر يُقتَل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى .. وهي آية جمعت معاني كثيرة في ألفاظ قليلة.
يقول ابن كثير مفسرا : «وقوله تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة﴾ ، يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم وهو قتلُ القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يُقتل، انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، واشتهر قولهم : القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز ﴿ولكم في القصاص حياة﴾ » (مختصر تفسير ابن كثير، ج01،ص156، دار الصابوني 1999).
فهل من المنطقي إذن، أيها السادة الحقوقيون، أن نسلم بأن الله تعالى هو واهب الحياة، وهي مقدمة صحيحة، ثم نرفض تشريعه قتل من يتعمد أن يسلب غيره هذه الحياة، وهي النتيجة المنطقية لتلك المقدمة؟ والحال أن واهب الحياة ومانحها أعلم بها وبطرق حفظها واستمرارها، وما تشريعه ذاك سوى وسيلة من الوسائل التي بها “تصان الدماء وتحفظ حياة الناس” كما يقول محمد علي الصابوني في “صفوة التفاسير” (المجلد 01، ص118، دار الفكر).
– ثالثا : في ظل الواقع المعيش
أما على مستوى الواقع المعيش فحسبنا الإشارة إلى جرائم كثيرة نفذها مرتكبوها بقلوب خلت من الرحمة والشفقة، لعل من آخرها ما وقع بمدينة طنجة خلال شهر فبراير من العام 2010م، لنسائل المنادين بإلغاء الإعدام عن العقوبة العادلة والمستحقة، في تصورهم، لشخص قتل ثلاث نسوة وكأنه يذبح خرافا يوم العيد؟
أخيرا، وحتى لا يساء فهم هذا المقال فإن صاحبه يؤكد على عدالة عقوبة الإعدام وتطبيقها في حالة كل شخص راشد، عاقل، مُصر، مترصد، يقدم متعمدا على وضع حد لحياة شخص آخر.
إن الإعدام في مثل هذه الحالة عقوبة عادلة ضامنة لاستقرار الأمن داخل المجتمع حتى ينال الجاني عقابه، وحتى لا يتحول المجتمع إلى غابة يقتص فيها كل فرد لنفسه أو لأهله خارج القانون وبعيدا عن الشرعية.
والله تعالى أعلى وأعلم.