أسعدني أخي العزيز الأستاذ عبد القدوس التجكاني – حفظه الله – بكتابته مقالا عن كتابي “غيمات الندى” ضمَّنه وقفاتٍ مفيدةً عند جوانب في هذا الكتاب تتصل بعنوانه، ومضامينه، ومميزاته، وملاحظات نقدية عليه.
وتفاعلا مع ما ورد في مقال أخي الكريم ارتأيت أن أكتب هذه الكلمات شكرا له، وتقديرا لمجهوده، ومناقشة لبعض آرائه، وتجسيدا للحوار العلمي الذي ينبغي أن يسود بين الأساتذة وطلابهم.
أسباب النزول
أصلُ المقال الذي كتبه الأستاذ عبد القدوس التجكاني مداخلةٌ قدَّمها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان صباح يوم السبت الخامسَ عشرَ من يونيو 2019م في لقاء علمي نظمه طلبةُ ماستر الكتابة النسائية بالكلية لتقديم كتابي “غيمات الندى” وكتاب أخي الكريم الدكتور أحمد رزيق “الكتابة بالوجدان”، وهما معاً كتابان يتمحوران حول شخصية الدكتورة سعاد الناصر ومنجَزها العلمي والأدبي.
كان لقاء علميا مفيدا ذاك الذي خصصه طلاب الماستر للاحتفاء بكتابين لأستاذين من الأساتذة الذين أشرفوا على تدريسهم خلال الموسم الجامعي 2018/ 2019م، وشارك فيه إلى جانب الأخ الكريم الأستاذ عبد القدوس التجكاني كلٌّ من الأستاذ محمد ازعيطار والدكاترة سعاد الناصر، وأحمد رزيق، وأحمد بوعود، وأبو الخير الناصري. وقد جعلت أجواء الجدية والنقاش الهادف من اللقاء العلمي حلْقةً تكوينية مفيدة للطلاب.
شكرا أبا غسان
وإني لأشكر مجددا لطلبة الماستر هذه الالتفاتة العلمية الكريمة، وهذا الوفاء لأساتذتهم، والاحتفاء بأعمالهم، راجيا أن يجعلوا هذا الاحتفاء سُنّة لا يتخلّف عنها فوجٌ من أفواج هذا الماستر. وأخصُّ بالشكر، من بين الطلاب الكرام، صديقي أبا غسان عبد القدوس الحسن التجكاني الذي عرفته طالبا جادّا حريصا على الاستفادة والاستزادة من العلم، مع أخلاق طيبة حسَنة تزينه وتزين كلَّ طالب علم لا يستغني بالمعارف عن مكارم الأخلاق. فشكرا أبا غسان لإقدامك على قراءة كتابي “غيمات الندى”، ولإنفاقك بعضا من وقتك للكتابة عنه وتقديمه للقراء والمهتمين.
حَيَّ على الحوار
وبما أني أعرف محبتك للحوار العلمي، وعشقك له، وابتغاءك للحقيقة، فإني لم أُردْ لكلمتي هذه أن تخلوَ مما تحبه نفسُك وتشتهيه اشتهاء. لذلك أحببتُ أن أختم هذه التحية بمناقشة بعض ما ورد في مقالتك الجيدة من آراء.
أ/ اقترحتَ في مقالتك، أخي العزيز، عنوانا للفصل الثاني من فصول “غيمات الندى”، فقلتَ إن «العنوان “نظرات في الأعمال النقدية” أنسب» من العنوان “نظرات في أعمال الدكتورة سعاد الناصر”، وأسَّستَ هذا الاقتراحَ على أنَّ العنوان الذي وضعتُه «يفيد العُموم، لكن بعد القراءة يتبين أن هذه النظرات اقتصرتْ على الجانب النقدي في أعمال الأستاذة سعاد الناصر، رغم أن لها جانبا إبداعيا».
وإني لأفهم أنك تصدُر في هذه الملاحظة عن ابتغاءٍ للدقة ورغبةٍ في إحكام صناعة عناوين الفصول حتى تنسجم مع محتوياتها.
وفي ضوء هذا المقصد فأنا أوافقك القول إن العنوان الذي وضعتُه يفيد العموم، غير أني لا أوافقك القول إن النظرات التي ضمَّها الفصل الثاني من الكتاب «اقتصرتْ على الجانب النقدي في أعمال الأستاذة سعاد الناصر»؛ وذلك لأن من محتويات هذا الفصل قراءة في كتابها “بوح الأنوثة” وقراءة في كتابها “توسمات جارحة” وهما عملان فكريان !
وبناء عليه فإن العنوان الذي تقترحُه لهذا الفصل، وهو “نظرات في الأعمال النقدية” لا يناسب مضامينه كلها. ولو أنا أردنا الدقة – انسجاما مع مبتغاك أيها العزيز – لقلنا إن الصواب هو “نظرات في الأعمال النقدية والفكرية”. ولو أردنا مزيدا من التدقيق لقلنا، بعد الموازنة بين عدد الأعمال النقدية والفكرية لأستاذتنا سعاد الناصر وبين ما خصصتُه منها بالقراءة، إنَّ العنوان الأنسب هو “نظراتٌ في أعمالٍ نقدية وفكرية”. ولاحظْ أني خرجتُ من تعريف كلمة (الأعمال) إلى تنكيرها تحقيقا لمطلب الدقة الذي صدرتَ عنه في ملاحظتك؛ وذلك لأني لم أقدم قراءات في جميع “الأعمال النقدية والفكرية” التي أصدرتها أم سلمى.
هذا، ويمكننا أن نقترح عناوين أخرى لهذا الفصل كأن نقول “سعاد الناصر ناقدةً ومفكرة”..
ب/ أعجبني فيما كتبتَه هاجسُ السؤال، وراقني قولُك: «وهنا نتساءل: ما سببُ الاكتفاء بدراسة أعمالها النقدية دون الإبداعية؟».
وأقول في الإجابة بعد إضافة لفظ “الفكرية” معطوفا على “النقدية” في سؤالك: اكتفيت بدراسة الأعمال النقدية [والفكرية] للدكتورة سعاد الناصر دون أعمالها الإبداعية لأنني لاحظت من خلال متابعتي لما كُتب عن أستاذتنا العزيزة أنَّ أغلبَ الباحثين والدارسين لمنجَزها كانوا يخصّون أعمالها الأدبية بالقسط الأكبر من الدراسة والتحليل، لذلك ركزت على أعمالها النقدية والفكرية لأسْهم في تجلية جانبٍ آخر غنيٍّ من منجزها لم ينلْ من الدراسة مثلَ الذي ناله الجانبُ الأدبيُّ الإبداعي.
ج/ وفي ضوء ذلك يظهر لك، أخي العزيز عبد القدوس، سببُ غياب أي «مقطع من قصة أو شعر في مختارات [من] كتاباتها ضمن ملحق الكتاب»، فقد كانت الغاية هي إماطة اللثام عن الأعمال النقدية والفكرية لأستاذتنا الكريمة كما ذكرتُ منذ قليل.
د/ ذلك، وقد راقتني عنايتُك بالجانب اللغوي في الكتاب، فهذا الأمر يدل على غيرة حميدة على لغتنا الجميلة. وأحبُّ أن أغنيَ النقاشَ حول الملاحظتين اللغويتين الواردتين في مقالتك لأني – كما تعلم – شريكٌ لك في محبة هذه اللغة الرائعة.
لقد ذكرتَ، أخي العزيز، ملاحظتين تتصل أولاهما بتعدية الفعل (تعرَّف) بحرف الجر (على)، وتتصل الثانية بالفرق بين (السَّنة) و(العام).
وأسجل بداية أن ملاحظتك الأولى جاءت عارية من الاستدلال، خلافا لملاحظتك الثانية التي استشهدتَ لتعزيزها آياتٍ من كتاب الله تعالى (من سورة يوسف). ولَكَمْ كنتُ أحبُّ أن تُرفقَ الملاحظة الأولى باستشهاد أو دليل كيما تُحافظَ على النَّفَس العلمي في جميع أطوار الكتابة.
وأما قولك في عبارة من عبارات الكتاب وردت في الصفحة السادسة إن الصواب هو «في جميع أطوار تعرفي إلى أستاذتي» وليس “تعرفي عليها” فأقول في مناقشته: جاء في “لسان العرب” لابن منظور (ج09، ص237 و 241) ما يلي: «تعرَّفتَ ما عندَ فُلان أي تَطلَّبتَ حتى عرَفتَ (…) فأما الذي ورد في الحديث: تَعرَّفْ إلى الله في الرَّخاء يَعْرفْك في الشدّة، فإن معناه أي اجعله يَعْرفُك بطاعته والعَمَلِ فيما أوْلاكَ من نعمته، فإنه يُجازيك عند الشدة والحاجة إليه في الدنيا والآخرة». وعليه فقولنا “تعرفتُ إلى فلان” معناه جعَلتُه يَعْرفُني، وليس هذا ما قصدته في العبارة التي اعتَرضْتَ عليها وهي قولي “وفي جميع أطوار تَعَرُّفي على أستاذتي”. وإنما قصدتُ أني كنتُ أتطلع إلى معرفة المزيد عن أحوالها في التدريس والكتابة، وقد تحقق لي ذلك.
وليس صوابا أن أقول: “في جميع أطوار تعرفي إلى أستاذتي”؛ لأنه يفيد خلاف ما أردتُ التعبير عنه.
وأما اعتراضك على استعمال (السنة) واستدلالك بأنه لفظٌ يفيد الشدة والجدب، واستشهادُك آياتٍ قرآنيةً في معرض الاستدلال، فحَسْبي أن أقول في مناقشته إن كلمة (السَّنة) وردت في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بثلاثة معان وَفقا لسنوات استعمالها، وذلك على النحو الآتي:
1- فقد استعملت أول مرة بمعنى العام، وذلك حوالي 202ق.هـ/ 426م، في نص منسوب إلى الحارث بن كعب المذْحِجي يقول فيه: “يا بَنيّ قد أتتْ عليَّ مئة وستون سنةً، ما صافحتْ يميني يمينَ غادر”.
2- واستعملت بمعنى الجدْب الذي يَصْحبُ احتباسَ المطر، وذلك حوالي 79 ق.هـ/ 545م، في نص لأبي دؤاد الإيادي يقول فيه:
فـــهُـــمْ للـملائـمـيـن أنـــاةٌ وعُــرامٌ إذا يُــرامُ الـعُـرامُ
وسَماحٌ لدى السِّنين إذا ما قحَطَ القَطْرُ واسْتقلَّ الرِّهامُ
3- واستعملت بمعنى الأرض المُجدبة، وذلك حوالي العام 02 ق.هـ/ 620م، في قول أوس بن حجر المازني التَّميمي:
لَحَيْنهُم لَحْيَ العَصا فطَرَدْنَهُم إلى سَنَةٍ جِرْذانُها لم تَحلَّمِ
إن كلمة (السَّنة) تدل وَفْقا لهذه المعطيات اللغوية التاريخية على ثلاثة معان أوَّلُها العامُ، وثانيها الجَدْبُ، وثالثُها الأرضُ المجدبة، فهل من الجائز أن نحصرَ دلالتها في معنى واحد فقط هو الذي استفدتَه من آيات من سورة يوسف؟ إننا إنْ فعلنا ذلك نكون قد ضيَّقنا واسعا، وعطَّلنا استعمالا من الاستعمالات التاريخية لهذا اللفظ عند العرب.
هذا، وبما أنك استشهدتَ نصا قرآنيا في مناقشتك لاستعمالي كلمةَ (السَّنة) في موضع من “غيمات الندى” فإني أرى من المفيد جدا أن أنبّه نفسي وإياك، أخي العزيز عبد القدوس، إلى إشارة مفيدة في الآيات التي استشهدتَها وهي أن كلمة (السنة) فيها استُعملتْ للدلالة على المدة الزمنية مجرَّدةً من أي معنى إيجابي أو سلبي، فقد قال الله سبحانه: (تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون)، و(السنة) هنا مقترنة بالزراعة والخصب والمحصول الزراعي. وقال تعالى بعد ذلك: (ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون)، أي ثم تأتي سبع سنين أخرى قاسية مجدبة. فلاحظْ أن الكلمة استُعملت للدلالة على الخصب مرة وعلى الجدب مرة، وهذا يفيد أنها ليست خالصة للدلالة على الجدب والشدة !!
وأما كلمة (العام) التي دلّتْ في الاستشهاد على زوال الشدة والجدب، وهو معنى إيجابي، فإنها تقترن بأمور سلبية في غير هذا الموضع من كلام الله سبحانه، وحسْبي أن أذكّرك بقول الله تعالى: (أوَلا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون) [التوبة/ 127] لترى اقترانَ (العام) بالفتنة وهي أمر سَلبي !!
خاتمة
ختاما أجدد شكري لك، أخي العزيز الأستاذ عبد القدوس التجكاني، وأحييك على المجهود الطيب الذي بذلته في قراءة كتابي، وأعيدُ ههنا ما كنتُ قلتُه يومَ تقديم الكتاب برحاب الكلية: إنني فخور بك، وسعيدٌ جدا بملاحظاتك، لأنها دليلُ استقلال شخصيةٍ ودليلُ قدرةٍ على تجاوز وَصْفِ العمل وتلخيص مضامينه إلى إبداء الرأي فيه. ولا ريب في أن استقلال شخصية الطالب هو أحد أهم الغايات التي ينبغي أن يسعى كلُّ تَكوين لتحقيقها، لأن التربية والتعليم والتكوين ليس من مهامها صناعة الأشباه والظِّلال، بل تخريجُ طلبة وباحثين ذوي شخصيات علمية مستقلة قادرة على الحوار والنقاش وإبداء الرأي الحر. فما أسعدني وأنا أرى واحدا من طلابي يسلك طريقا نحو استقلال الشخصية في البحث العلمي ! وما أسعدني وأنا أراه يقدّم كتابي بشخصيته المستقلة التي تحاور وتناقش وتبدي الرأي المختلف !
لقد كتبتُ يوما مناجيا والدي رحمه الله تعالى: “أنت جسْرُ التضحيات الذي نعْبُره دون أن يلتفتَ إلى أناه”. وعندي أن الأستاذَ كالأب ينبغي أن يمهّد السبيل لطلابه كي يسلكوا سبل البحث واستقلال الرأي العلمي. لذلك كان أول ما طلبته من أخي العزيز عبد القدوس عندما أخبرني أنه سيقدم قراءة في كتابي أنْ قلت له “أرجوك يا عبد القدوس، إذا بدتْ لك ملاحظات نقدية حول كتابي فلا تتردد في ذكْرها يومَ تقديم الكتاب”، وكنتُ أقصد بذلك الطلب أن أشجعه على الحوار النقاش وإبداء الرأي المستقل، وقد سعدتُ كثيرا باستجابته لذاك الطلب.
حفظك الله تعالى عزيزي عبد القدوس، وسدّد سبحانه خطاك، وبارك جهودك العلمية كلها.
مع خالص محبتي وتقديري لك.