في السياق التأليفي:
إن الباحث في المنجز الأدبي للدكتور أبو الخير الناصري سيلاحظ حتما سمة الوفاء التي طبعته من خلال كتاباته عن ذوي الفضل عليه من الأساتذة و الأقارب، استهلها برا بوالده رحمه الله حين ألف كتاب “في صحبة سيدي محمد الناصري”، لتتلوه مقالات في أساتذة أفاضل أمثال المرحوم د.عبد الله المرابط الترغي، ود.أحمد بوعود، ود.عبد الرحمان بودرع..”، ثم كتابه عن الأستاذ محمد الحافظ الروسي الموسوم بـ” في صحبة أستاذي محمد الحافظ الروسي”، ناظما بذلك عقدا فريدا من الوفاء، واسطته آخر إصداراته كتاب “غيمات الندى” عن الأستاذة المفضال الدكتورة سعاد الناصر.
نظرة في العنوان:
لا شك في أن هذا العنوان يجعلنا نتساءل قبل القراءة: ما دلالاته؟ لماذا اختار الكاتب عنوان الكتاب شاعريا خلافا لكتبه السابقة؟
“غيمات الندى” عنوان زلال يفيض شاعرية لدرجة قد يتوهم فيها القارئ أنه بصدد قراءة ديوان شعري، والسبب في ذلك التركيب الإضافي بين لفظين من معجم الطبيعة. المضاف (غيمات) مفرده غيمة وهي السحابة، والمضاف إليه (الندى) وهو الطل أو المطر الخفيف، وإذا ما اقتفينا دلالة هاتين الكلمتين في الثقافة العربية سنجد أنهما دلتا في قصائد الشعراء على الخير و العطاء و الجود، وحسبنا في ذلك دليلا بيتان شعريان:
الأول للمتنبي في مدح سيف الدولة ورد فيه لفظ الغمام، يقول:
أين أزمعت أيهذا الهمام **نحن نبت الربى وأنت الغمام
و الثاني لجرير ورد فيه ذكر الندى على صيغة التفضيل، يقول:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح
إنه عنوان يوحي بمضامين ترتبط بكل ما له علاقة بقيم العطاء والكرم، وهذا ما تزكيه الكلمة التصديرية على الغلاف حيث يصرح الكاتب أنه ألف الكتاب وفاء لأستاذته سعاد الناصر شكرا وامتنانا لأفضالها عليه.
هكذا ينجلي، بتصريح الكاتب، غبش السؤال عن سبب شاعرية العنوان، فمقام صاحبة “بوح الأنوثة” و”توسمات جارحة” استدعى عنوانا رهيفا رهافة قلمها.
في المضامين
يتكون هذا الكتاب بعد المقدمة من ثلاثة فصول بعدها خاتمة ثم ملحق فلائحة المصادر.
أما الفصل الأول فقد حاول الكاتب فيه إماطة اللثام عن مناقب أفضال أم سلمى، متوسلا في ذلك بذاكرة حديد استلهم منها مواقف وأحداثا، بدأت فصولها منذ أن كان تلميذا عام 1998، حين لفت انتباهه كتاب “بوح الأنوثة” ضمن سلسلة شراع لسببين اثنين: الأول مرتبط بتشابه في الألقاب بينه وبين صاحبة الكتاب، والثاني مرده أن “بوح الأنوثة” أول كتاب نسائي يصدر في سلسة شراع، بعد ذلك ستتاح له فرصة رؤيتها من بعيد، لما حضرت بمدينة أصيلا لتقديم كتابها المذكور.
في أواخر التسعينات انتقل أبو الخير الناصري إلى كلية الآداب بمارتيل، حيث صار طالبا عند الأستاذة سعاد الناصر على مرحلتين (الإجازة و الماستر)، كون فيهما معرفة حقة حول شخصيتها، سواء داخل الجامعة بصفتها أستاذة نهل من فيض علمها وخلقها كل طالب، أم خارج الأسوار مسهمة في المشهد الأدبي بإصداراتها وحضورها في المحافل الثقافية.
هذه جملة من مواقف جمعت الكاتب بأستاذة كانت لطلابها نعم السند بأخلاق زانها تواضعُ العلماء، وشكر ذوي الفضل، والأمانة العلمية، والثباتُ على الرأي في كتاباتها.
في الفصل الثاني قدم الكاتب خمس قراءات في الأعمال النقدية للدكتورة سعاد الناصر، اعتمد فيها منهجا وصفيا، استهله بتحديد سياق كل عمل منها، ليحلل ما ميز مضامينها التي طغى عليها حضور قضية المرأة التي عالجتها الكاتبة بموضوعية، إذ نشلتها من غياهب النسوية إلى نور الإنسانية، كما وجه بعد ذكر مزايا كل عمل، مجموعة من الملاحظات النقدية على مستوى الشكل والمضمون.
لقد رسم الدكتور بهذه القراءات أبهى صور الحوار العلمي، بين طالب أصدق القراءة بعيدا عن المحاباة وبين أستاذة تقبلت ملاحظات طالبها بفضائل العلماء كما ورد في الفصل الأول.
أما آخر فصل فقد كان حوارا شيقا أجراه الكاتب مع الدكتورة سعاد الناصر، ارتكز على مجموعة من المواضيع، كمسيرها العلمي، وميولاتها في الكتابة، ومدى تفاعل النقد مع منجزها الأدبي، وتأسيس ماستر الكتابة النسائية.
بعد الفصول الثلاثة ضمن الكاتب خاتمة الكتاب ما وصل إليه من خلاصات حول شخصية أستاذته سعاد الناصر بعد أن “استنزل من سماء أخلاقها عذب الندى”كما يقول..أتبعها بملحق به مختارات من كتابات سعاد الناصر مع كلمات بعض النقاد في أعمالها، ثم مجموعة من الصور….
في المزايا:
إن أهم ما يميز كتاب غيمات الندى في تقديري:
– سلاسة أسلوب الكاتب و لغته المتينة.
– توثيقه الدقيق لمجموعة من الأحداث والمواقف، وهذا واضح في هوامش الكتاب حيث وثق رسائل إلكترونية وفايسبوكية، بالإضافة إلى تواريخ اللقاءات الثقافية وأماكنها، وهذا مما يدل على حس الأمانة والصدق عنده.
ملاحظات:
وحتى أكون مستفيدا من دروس الكتاب، كان لزاما علي أن أدون بعض الملاحظات استجابة للحوار العلمي:
– أولا: يخال القارئ عنوان الفصل الثاني “نظرات في أعمال الدكتورة سعاد الناصر”، أنه بصدد مجموعة من القراءات في أعمالها الإبداعية والنقدية انطلاقا من العنوان الذي يفيد العموم، لكن بعد القراءة يتبين أن هذه النظرات اقتصرت على الجانب النقدي في أعمال الأستاذة سعاد الناصر، رغم أن لها جانبا إبداعيا، لهذا يبدو العنوان “نظرات في الأعمال النقدية ” أنسب، وهنا نتساءل: ما سبب الاكتفاء بدراسة أعمالها النقدية دون الإبداعية؟
كما نلاحظ تغييب مقطع من قصة أو شعر في مختارات كتاباتها ضمن ملحق الكتاب.
– ثانيا: هناك ملاحظتان لغويتان:
أ- ورد في المقدمة حيث يقول: “وفي جميع أطوار تعرفي على أستاذتي”. والصواب” في جميع أطوار تعرفي إلى أستاذتي” (ص06).
ب- جاء في حديث الكاتب عن دراسته الجامعية: “في السنة الثالثة من سنوات الإجازة..”(ص14 و15). والأفضل هنا استعمال العام بدل السنة؛ لأن السنة أقرب للدلالة على الشدة و الجدب، لهذا أستحسن لفظ العام دلالة على مرحلة كانت خصبة بالتحصيل العلمي ليوافق الكلام مقتضى الحال.
ولا أدل على ذلك من قوله تعالي في سورة يوسف: (قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) [سورة يوسف، الآيات 47- 49] .
خاتمة
يمكن القول إن الدكتور أبو الخير الناصري استطاع أن يجعل كتابه عبرا و دروسا يستفيد منها الطالب والأستاذ معا.
فأما الطالب فعبرته صاحب الكتاب الذي مثل الوفاء الصادق لمن كان لهم فضل عليه، في زمن استشرى فيه طلبة النفع ذوو الأسجاع الزائفة، وعز فيه طلاب العلم الأوفياء.
و أما الأستاذ فقدوته أم سلمى، إنسانة تحسن التعامل والتحفيز، وأستاذة باحثة شعارها التواضع و الحوار العلمي الجاد بعيدا عن مظاهر الأنا الخنفشارية.