بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الحضور الكريم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى
السلام عليك يا صاحبي يا أبا الوفاء
السلام على صبرك، ونضالك، وكلماتك التي أراها الآن تعانق الصدق، والمحبة، والتسامح ، والإخاء.
ها أنذا آتي اليوم إلى القصر الكبير في زيارة لا تشبه أخواتها من الزيارات التي طوتها الأيام الماضية. ها أنذا آتي لتأبينك محاولا أن أرد على قساوة الموت والفجيعة في رحيلك بهذه الكلمات التي لا مفر لها من أن تحلق في سماء مناقبك لعلها تعود بما يضيء سواد أيامنا الغارقة في بحر من السراب الذي نحسبه ماء، حتى إذا ما أمسكنا به ذكرتنا الحياة، بل ذكرنا الموت بأن ما ينفع الناس هو بقية من ذكر طيب وفضائل باستحضارها يحيا الواحد منا أكثر من حياة.
أيها الحضور الكريم
في 28 من مارس 2010 قدمت إلى هذه المدينة لحضور الذكرى التأبينية للشاعر محمد عفيف العرائشي المنظمة هنا في رحاب المركز الثقافي، فكان أول لقاء لي بالأستاذ محمد أبي الوفاء بعدما كنا التقينا، مرات قبل ذلك، على صفحات جريدة ” الشمال ” حيث كنا ننشر كتاباتنا معا.
كان الأستاذ أبوالوفاء يومئذ يتولى مهمة تسيير الحفل التأبيني بنشاط كبير وهمة عالية، وأذكر أنني انتظرت حتى نهاية اللقاء، فتقدمت للسلام عليه، وإهدائه نسخا من كتابي ” تصويبات لغوية في الفصحى والعامية ” و ” في صحبة سيدي محمد الناصري “، لأفاجأ به، بعد أيام معدودات، يهاتفني مخبرا إياي بأنه كان ووالدي – رحمهما الله – صديقين، وأنه بعدما رأى صور الوالد ضمن كتابي عنه تذكره وتذكر صداقتهما القديمة. ومنذ ذاك اليوم نشأت أواصر الصداقة بيني وبين أبي الوفاء الذي كنت أرى فيه صديقين : صديقا لي، وصديقا لوالدي.
ورغم أن صلتي بالرجل لم تمتد طويلا، ورغم أن الموت قد حكم على لقاءاتنا بألا تتجاوز عدد أصابع اليدين، فلقد استطعت من خلال تلك اللقاءات المعدودة به، ومن خلال مقالاته ودراساته، وكذا من خلال ما نظمه أو شارك فيه من أنشطة ثقافية أن ألمس بعض أخلاقه السامية مما يستحق أن يشكل منارات تهدينا سبل الرشاد في ليل واقعنا الثقافي البهيم.
وبالرجوع إلى يوم لقائنا الأول في هذا المكان أستحضر لحظة نادرة من لحظات ذاك اللقاء التأبيني، عندما انزاح الأستاذ أبو الوفاء عن الفقرات المخصصة لذاك النشاط كيما يتيح المجال لكل راغب في تقديم كلمة عن الشاعر العرائشي من أصدقائه، ومحبيه، وقارئي أشعاره، ومعارفة عامة.
لقد كان في ذاك الانزياح منه – رحمه الله – مجموعة دروس أكتفي بالإشارة إلى درسين منها :
أولهما : انفتاحه، وتسامحه، وقبوله بالآخر المختلف .. وهي أخلاق تشربها من المدرسة الفكرية لمحمد بن الحسن الوزاني الذي لم يكتف عزيزنا أبو الوفاء بتمثل أفكاره وتعاليمه، واقتباسها في مقالات ودراسات، بل وزين أحد جدران مكتبه داخل البيت بصورة زعيم الشورى والاستقلال تعبيرا عن شدة الوفاء والإخلاص لأفكار ذاك الرمز الوطني المشرق.
وثانيهما : ابتعاده الشديد عن احتكار الرموز الثقافية، واستغلالها، وتوظيفها في حروب وصراعات خفية. وهو أحد أمراض المشهد الثقافي ببلادنا يفرغ الفعل الثقافي من دلالاته الإنسانية العميقة. ولقد كان انزياح الأستاذ أبي الوفاء يومئذ درسا نموذجيا في تطهير الساحة الثقافية من ذاك الداء اللعين، والتأكيد على الثقافة في بعدها الإنساني الكوني والشمولي.
على أن فقيدنا العزيز كان أبا للوفاء اسما ومعنى، فما كاد ينتهي من تأبين صديقه العرائشي حتى تاقت نفسه لإصدار كتاب عنه يتضمن ما قدم من شهادات، وكلمات، وقصائد يوم التأبين، فانطلق يجمع مواد الكتاب ويعدها للطباعة في حماس ملحوظ.
… ثم صدر الكتاب، وكان في صدوره درس آخر بليغ .. وما كدت أتصفحه حتى فوجئت مفاجأة سارة إذ رأيت كلمات قدمها بعض تلاميذ التعليم الثانوي في حق الشاعر العرائشي تجاور كلمات وقصائد لكتاب، وشعراء، وأساتذة، وباحثين، وفاعلين جمعويين. وتلك – والله – حكمة عظيمة منك، يا أبا الوفاء، تعلمنا كيف نطوي الأزمان لنضع النشء في صميم المشهد الثقافي بهذا البلد الجميل.
لقد انصهر في شخصية فقيدنا العزيزكثير من الشمائل الكريمة قلما تجتمع في غيره من الناس، وذاك ما جعله يحظى بكل احترام وتقدير داخل القصر وخارجه.
كان – رحمه الله تعالى – مثالا للصدق، والنبل، والشهامة، والتواضع، والكرم، والوفاء.
وكان رمزا للشجاعة، والتضحية، والجهر بالحقيقة، وفضح الأباطيل في جرأة وصلابة.
وهو، قبل هذا وبعده، رجل الحوار، والتواصل، وإصلاح ذات البين، لا سيما بين الأدباء والمبدعين، وها هو الشاعر مصطفى الطريبق يشيد بهذا الخلق السامي إذ يقول في إحدى قصائده :
ولئن نسيت، فما نسيت أبا الوفا إني لما منه استبان أفاخر
قد جاء يسعى للتواصل بيننا لكن فما له جاء، عاقه قاهر
رحم الله صديقنا العزيز أبا الوفاء، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أسرته وأحبابه الصبر الجميل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
(+) نص الكلمة التي شاركت بها في حفل تأبين الراحل محمد أبي الوفاء بالمركز الثقافي البلدي بالقصر الكبير يوم 04 مارس 2011م.