استراحة محارب أم انكسار كاتب حالم؟
آمنت، منذ قرار دخولي مجال الكتابة بجدواها وبضرورة انخراطها في فعل التغيير الإجتماعي. لذلك، جاءت أعمالي المنشورة لحد الساعة نابضة بهذه الروح كما أثارت حولها عواصف لا لون لها اختلط فيها الإعجاب بالسخط والغيرة والحسد لكنها، في جميع الأحوال، كانت أعمالا تعبر عن زمنها بقوة وأصالة أعتز بها أيما اعتزاز. لذلك، لا زلت لا أصدق بأنني استطعت تمرير كتاب “تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب” في جزأين صادرين ورقيا، سنتي 2009 و2011، لا زلت أعيد قراءتهما الواحد تلو الآخر كي لا أنسى قسوة المغربي على المغربي ومكر المغربي على المغربي في قطاع يكذب على المواطنين وعلى التاريخ مقدما نفسه بأنه يصنع أجيال الغد: قطاع التعليم.
كان الكتاب في أصله سيتكون من ثلاثة أجزاء: جزء أول يختص برصد التلاعبات بمصائر المتبارين من رجال التعليم من خلال توزيع البيانات السنوية (المجمعة لاحقا في كتاب) في الشارع على من يهمهم الأمر مع رصد ردود الفعل عليها وتفاعلي معها؛ وجزء ثان يختص بالدخول في مواجهة مباشرة مع الإدارات الوصية على التعليم واستدراجها لجعل “التلاعب بالامتحانات المهنية” مسؤولية من مسؤولياتها الإدارية والأخلاقية؛ وجزء ثالث وأخير يختص في جر هذه الإدارات إلى المحاكم الإدارية وهو الأمر الذي لم يتحقق بسبب “هروب” ثلاثين محاميا مغربيا اتصلنا بهم و”تهربهم” من تبني القضية والدفاع عنها.
تجربة مطاردة التلاعب والمتلاعبين بالامتحانات المهنية في المغرب (2004-2009) كانت عملا مؤسسيا بكل المقاييس إذ غابت عنها الأنا واستعمال الفعل النضالي لأهداف غير شريفة. فقد كنت رجلا واحدا اعتقد خصوم النزاهة والشفافية حينها بأنه يستمد صموده وإقدامه من جهات ثقيلة وخفية. ف”النشطاء” السياسيون والنقابييون والجمعويون بمدينتي كانوا يعتقدون بأن ورائي “جحافل” من المريدين: فالبيانات التي كنت أصدرها كانت تصل المعنيين في وقتها والمعطيات مهما كانت دهاليز الإدارات وكواليسها كانت تصلني في وقتها. وبذلك، بدأت “المجتمعات” المحسوبة مجتمعات مدنية وسياسية ونقابية حملة “قطف” زملائي وأصدقائي وجيراني وعائلتي و”عزلها” عني لإضعافي وتركيعي وتغيير قناعاتي. كان أمرا مريعا، أعترف بذلك، لكنه جعلني أضاعف قوتي لأضمن التوازن في عز تغير الموازين.
وحين تم لي ذلك، انتقلت هذه “المجتمعات” المحسوبة مجتمعات مدنية وسياسية ومهنية إلى الخطوة الموالية، خطوة الإشاعة والعمل الدنيء. وبذلك، صارت لي خصامات مع آباء التلاميذ ومع التلاميذ ومع الزملاء في المهنة ومع الإدارة . ثم انتقل الأمر إلى المجال الثقافي بحيث صار لي خصوم كنت أقدر مكانتهم الأدبية وبعضهم كانوا بالنسبة لي أساطير في الكتابة الإبداعية والنقدية وهذا الأمر سيكون موضوع تفصيل في الحلقات اللاحقة.
الحقيقة أنني لم أشرك أبدا أحدا في فعلي النضالي ذاك لسبب بسيط وهو أنني كنت أدرك بأنني أسير نحو قبري عن سبق إصرار وترصد. لذلك، لم أكن في حاجة لمن يشوش علي تفكيري بنصائح التوقف وحكم التراجع وأمثال الاستفادة من مصائر السابقين… لم أكن أستمع لأحد لأن الواقع، واقع الزيف والكذب والبهتان، بدا لي أكبر من الصورة ولا حاجة لغير العين في التعامل معه. لذلك، استغنيت عن الأذن.
ومع غياب ثقافة السمع التي تجلب الطاعة والخوف من المعلوم والمجهول، تحررت ولم أعد أخشى أحدا. وبذلك، بدأت أفكر في ضرورة الحرص على التوازن بالاشتغال على كفتين: كفة النضال الجاري على الأرض وكفة الاشتغال على الواجهة الإبداعية حيث كنت أترجم فظاعات الواقع إلى نصوص إبداعية حتى صارحتني مرة كاتبة بريطانية صديقة، قائلة: “أنتم العرب لديكم قوة هائلة على التخيل” وهي لا تدري بأن ما أكتبه “واقع” يعيشه أبناء بلدي وهم يصارعون لكي لا يصدقونه بوضع الأصابع في الآذان والأكف على العيون!
—-
(يتبع)