استراحة محارب أم انكسار كاتب حالم؟
لم أكن أعلم بأن الأمر كله كان من تدبير الأحزاب السياسية في مدينتي للضغط بهدف دفعي للقبول بالانخراط السياسي تحت اللون الذي لا يروق لي. لم أعلم بالأمر حتى خرجت الأفواه الحزبية مباشرة لتجهر ب”عرضها” بعد صدور أول أعمالي سنة 2001. وحين جهرت، أنا أيضا، برفضي؛ اعتبر الأمر إهانة لها ولماضيها النضالي فاجتمعت الأحزاب الشقيقة والصديقة والنقابات والجمعيات التابعة لها للتشاور في أمر “معاقبتي”. الأمر الذي لم يحدث حتى في عز الإذلال الإسباني للوجود المغربي في جزيرة ليلى مع بداية القرن الواحد والعشرين: اجتماعات حزبية ونقابية وجمعوية مصغرة ومكبرة للتشاور في معاقبة فرد واحد دخل للتو إلى عالم النشر الورقي والإلكتروني في مجتمع لا يقرأ ولا تشكل فيه القراءة والكتابة تهديدا لأي جهة بالقدر الذي تشكل فيه الهزائم الكروية والإقصاءات من البطولات الرياضية موضوع الصم والبكم والمعاتيه والصراصير!
وحين نشرت بيانا باسمي حول تفجيرات 16 ماي سنة 2003، كما هو واجب على كل مثقف حر، وجد “المجتمع المدني” بمدينتي ضالته في وقوف حليف قوي إلى جانبها: الإدارة (=المخزن). وبذلك، اكتمل غضبي على قوى “الظلم” في البلاد بأسمائها الصريحة والمبطنة، المدنية والسياسية، ال…وال…، فبدأت أجمع قواي لضربة لا توفر رأسا من الرؤوس التي أفلتت من مناجل الحجاج وفؤوسه فكانت “بيانات أكتوبر السنوية” (2004-2009) والتي تقصدت فضح العبث الممنهج في التلاعب بمصائر الموظفين بأصابع يختلط فيها المخزني بالحزبي بالنقابي بالجمعوي. وهي البيانات التي جمعت في سنة 2009 بين دفتي كتاب بعنوان “تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب” هو، بالنسبة لي، أقوى أعمالي وأجرؤها على الإطلاق. فلحد الساعة، لا زلت أتساءل: “كيف تمكنت من تمرير كتاب بهذه القوة وبهذا العري الصارخ؟”…
في عز هذا الجو العدائي، تعلمت أن اختيار طريق الحرية يتطلب تحمل مسؤولية ذلك الاختيار. كما تفهمت أسباب دخول “باقي الدواجن” إلى “الخم” لتقضي البقية من حياتها تكتب أو تنكتب، تلعب باللغة، وتقلب القواعد التركيبية، وتؤنث المذكر وتذكر المؤنث لتقدم نفسها ك”كائنات مشاكسة” استعصت عليها “المشاكسة” على الأرض فتحولت ل”المشاكسة” على الورق!
أفتخر، اليوم، بأن الطريق الذي سلكته كان فعالا للغاية. فقد صرت مقروءً أكثر مما توقعت. وكان الخصوم أكثر مواظبة على قراءة كتاباتي من أقرب أقربائي وحتى من حاولوا التظاهر بعدم قراءتها كان غيرهم يقرؤها عليهم لأن الأمر جدي ولا علاقة له ب”مشاكسة” المشاكسين لدرجة صارت معها كل مبادرة أقدم عليها أو نص إبداعي أنشره أو بيان أعممه يستدعي استنفارا عاما بمدينتي ويشكل ما صارت تروج له “الدواجن” ب”عقدة الريحاني” بحيث صار كل “فعل” أقدم عليه يتطلب من المجتمعات السياسية والمهنية والمدنية معارضته بنقيضه ولو تطلب الأمر بالكفر بالمقدسات. ولا زلت أذكر أن تفاعل “المجتمع” السياسي والنقابي والجمعوي مع بيان أكتوبر السنوي الأول حول التلاعب بالامتحانات المهنية لسنة 2004 لم يكن ينقصه سوى الخروج إلى الشارع في تظاهرة كان بإمكانها تعويض العزوف الجماهيري عن الخروج إلى تظاهرات فاتح ماي السنوية! منذ بداية الألفية الثالثة.
بهذه الطريقة، أثبتت لأعداء الكلمة بأن “الكتابة” هي “رأسمال” رمزي يمول ويدعم ويغني من جهة ولكنها أيضا “سلاح” يقتل ويحرق ويدمر من جهة ثانية. وأن “الكاتب” بإمكانه أن يعيش أعزلا في مجتمع “فاسد” شريطة أن يكون “حرا” و”شجاعا”…
الآن، في رصيدي عشرين عملا ورقيا منشورا وأكثر من عشرين مخطوطا ينتظر النشر. لكنني أعترف بأنه لولا تلك الوجوه الذميمة التي ناصبتني العداء منذ بداية مشواري الثقافي والإبداعي، ما كنت لأكون هذا الريحاني الذي أعتز به. لذلك، أود بهذه المناسبة أن أتقدم ببالغ الشكر والامتنان لرب العالمين على حكمة خلقه ل”القبح” و”الذمامة” و”البشاعة” في هذه الحياة: القبح الخلاق، القبح الدافع للبحث عن القيم والتمسك بها. فليعلم الخبثاء من خصوم الإبداع وأعداء الكلمة واللون والنغمة بأنهم مجرد حواجز تدفع الفاعلين إلى بذل المزيد من الجهد. وليعلم المصابون بفوبيا الفن والأدب والقول الحر بأنهم مجرد عتبة تطؤها الأقدام لدخول التاريخ من بابه الأوسع.
—-
(يتبع)