استراحة محارب أم انكسار كاتب حالم؟
عندما فتحت عيني على الأدب، في البداية، فتحت قلبي لسير الأدباء. وصرت بذلك مولعا بمعرفة دقائق حياتهم كما يفعل فتية اليوم مع نجوم كرة القدم وباقي الرياضات. حتى في أولى الصور التي التقطت لي في أحد استوديوهات التصوير بمدينتي في سن السادسة عشر من العمر، وهي السنة التي بدأت فيها تجريب الكتابة من خلال كتابة يومياتي في القسم الداخلي بثانوية جابر بن حيان بمدينة تطوان في شمال المغرب، عكست صورةَ الكاتب الذي كنت أحلم أن أكونه. فقد شاهدت، في طفولتي، مرة على صفحات مجلة “الدوحة” القطرية ملفا مصورا عن باريس القرن التاسع عشر من إنجاز الروائي الفرنسي المعروف إيميل زولا. وفي نهاية هذا الملف المصور كانت صورة الروائي إيميل زولا وهو يقف باللونين الأسود والأبيض بذراعين متصالبتين وقد كتب تحت الصورة عبارة: “الروائي إيميل زولا يقدم نفسه”.
لقد تمكنت مني هذه العبارة وهذه الصورة لدرجة أنني، بعد حوالي عشرين عاما، وقفت، لا شعوريا، أمام كاميرا التصوير بذراعين متصالبتين وفي النية نشر الصورة على ظهر كتابي الأول “الاسم المغربي وإرادة التفرد” الصادر سنة 2001، وفي لا شعوري صورة إيميل زولا وهو “يقدم نفسه”. فقد كانت صور الأدباء تحتل حيزا كبيرا في مخيلتي: فعنترة بن شداد العبسي العبد الأمي علقت أعماله على أقدس مكان على وجه الكرة الأرضية، الكعبة. وبجوار من؟ بجوار أعمال لملك في السياسة والشعر معا: امرؤ القيس. وجون جونيه المعتقل أطلق سراحه مباشرة بعد دخوله عالم الكتابة. وجيل دولوز الذي قتل زوجته، تدخل رئيس فرنسا لمنع الحكم بإعدامه او حتى دخوله السجن إذ رأى في مشروع الحكم القضائي إساءة للفكر الفرنسي ولرموزه!
لكنني لما دخلت عالم الكتابة، لم أصدق في حينه الاستقبال الشرس الذي استقبلتُ به بدءً من الأهل والجيران مرورا بالأصدقاء ووصولا إلى “المجتمعات” السياسية والمهنية والمدنية… فقد كانت صدمة قوية. ربما كانت ثان صدمة تعرضت لها بعد تخرجي من الجامعة. فبينما كانت الصدمة الأولى في سن الثالثة والعشرين من العمر هي صدمة “إلقائنا”، نحن الطلبة الجامعيين، إلى المجتمع الذي أنجبنا بدون توفير شغل أو تعويض عن البطالة، كانت الصدمة الثانية في سن الثانية والثلاثين حين أدركت بأن اهتماماتي لا تدخل في دائرة ما يطلبه محيطي فشعرت في البداية بالغبن. لكنني، مع مرور الوقت وتنامي الإصرار داخلي، قررت الاستمرار في المضي قدما في مشواري الإبداعي ولو كلفني الأمر أن أكون القارئ الوحيد لما أكتبه. بهذا القرار وما رافقه من انخراط كلي في المشروع الذي رسمته لنفسي، أحسست بأنني صرت حرا خصوصا مع استمرار فقد الأصدقاء والجيران والأقارب. وأحسست بأنني صرت أقوى من أي وقت مضى وأكثر تحررا مما كنت عليه داخل “الجماعة” أو “القطيع”.
—-
(يتبع)
One Comment
يوسف خالدي
جميل للغاية