تهتز مدينة القصر الكبير بين الفينة والأخرى على أخبار مؤسفة جدا، ناجمة بالأساس عن ارتفاع وتيرة الانتحار التي باتت تتكرر كل حين وبفوارق زمنية بسيطة تدعو إلى القلق ودق ناقوس الخطر للمسؤولين، من أجل البحث والتنقيب في أسباب الظاهرة، والوقوف على سبل التقليص منها والتخفيف من حدتها.
تختلف أسماء الأحياء التي تشهد تنامي الآفة داخل المدينة، تتعدد الأسباب وتظل النهايات واحدة، تلخصها مفارقة الحياة لدى شريحة كبيرة من المقبلين على هذا الفعل غير المقبول دينيا واجتماعيا وقانونيا، إذ المحظوظ منهم من يكتب له عمر جديد ويتم إسعافه وإنقاذ حياته في الوقت المناسب، وليس دائما تسلم الجرة، خصوصا والمدينة تعيش تحت وطأة وضع صحي لايسر عدوا ولا حبيبا.
غالبا ما تكون الضغوط النفسية والإقتصادية والإجتماعية وراء انتشار هذه الآفة، فأكثر المقبلين على الانتحار هم أشخاص اسودت الدنيا بأعينهم، تملك منهم اليأس والإحباط، وصاروا فريسة لمرض الاكتئاب الحاد الذي يسببه انسداد الأفق وعدم وضوح الصورة المستقبلية للحياة، مما يرغمهم – تحت تأثير الخيبة والشعور بالقهر والدونية – إلى وضع حد لحياتهم طمعا في حياة أريح بالعالم الآخر.
يسجل الواقع حضور المعضلة في صفوف الجنسين معا، مع تفاوت ملحوظ في الأعمار، إذ لم يسلم منها قاصرون مازالوا في بداية الطريق، وشباب بعمر الزهور، وشيوخ فقدوا سلاح الصبر وانهزموا مستسلمين أمام ظروف حياتهم الصعبة.
أمراض نفسية وعضوية، فقر وحاجة، بطالة وفراغ، إقبال على المخدرات والكحول … وهلم جرا من العوامل والمسببات التي تختفي وراء هذه الآفة، والتي تظهر غالبا وتتجلى بوضوح بعد فوات الأوان، حيث لا مجال لتصحيح الأخطاء المرتكبة أو العودة بهؤلاء الأشخاص لحياة طبيعية سليمة بعيدا عن المنغصات وقد ودعوها وانتقلوا إلى دار الخلود.
حقيقة ليس من السهل القبول بهذه النهايات التي تكون صادمة في مجمل الأحيان، خصوصا وأنها تتم دائما في الخفاء من مرتكبيها وبعيدا عن أعين أهاليهم والمقربين منهم، ليشكلوا بذلك ضربة موجعة للأفراد والجماعات، للمؤسسات والهيئات، للمجتمع وللدولة، وللإنسانية جمعاء.
لقد صار حريا بالجهات المعنية التدخل من أجل الحد من تفاقم الآفة أكثر وأكثر، وفتح نقاش جاد ومسؤول حول الظاهرة، والأخذ بأيدي كل من هو في حاجة للمساعدة مع رد الإعتبار إليه كإنسان وروح لها الحق في الحياة، وتوفير أنواع الدعم له لغاية أن تستقيم حياته ويغدو صلبا قادرا على المواجهة والتحدي لا ضعيفا مسترخصا نفسه معجلا بإزهاق روحه.
نأسف جدا لما آلت إليه الظروف العامة بمدينة القصر الكبير، ونأسف أكثر أن يصبح الانتحار خلاصا لساكنتها من مشاكل الحياة اليومية القاهرة، فهل ستتدخل السلطات بوسائلها الخاصة لمعالجة الوضع، أم سيترك على حاله وليمت من يشاء الموت وليبق من يريد البقاء ؟
نأمل صادقين أن ينظر للآفة بعين متفحصة تسعى لتجويد نمط العيش، وبث روح جديدة تشجع على الحياة بالمدينة وخارجها، وإذ نتقدم بأحر تعازينا لكل الأسر والعائلات التي استيقظت يوما على فاجعة انتحار فرد من أفرادها، سائلين المولى عز وجل أن يرزقنا جميعا حسن الخاتمة، ويكون لطيفا رحيما بحالنا إلى أن نلقاه وهو راض عنا، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.