استطاعت مدينة القصر الكبير، وعلى امتداد تاريخها الطويل، أن تتحول إلى منارة للعلم وللمعرفة وللعطاء الثقافي المسترسل. واستطاعت نخبها الفاعلة اكتساب الكثير من عناصر المبادرة والتجديد على مستوى إنتاج المشاريع الثقافية الكبرى التي تحولت إلى إطار مرجعي ناظم للعديد من المبادرات التي تحبل بها الساحة الثقافية الوطنية الراهنة. ففي كل مجال معرفي أو إبداعي، ظلت أعلام مدينة القصر الكبير منتصبة كعناصر للعطاء المستدام وللابتكار الذي يغطي ينابيع نهر التميز الحضاري الذي ميز/ ويميز وجه المدينة الأصيل، على الرغم من كل الانكسارات والمثبطات التي أضحت تعيق واقع المدينة الراهن وانتظارات أهاليها ونخبها ومثقفيها.
وتعتبر الإعلامية أسماء التمالح واحدة من العناصر النشيطة التي أضحت تعزز المشهد الثقافي والإعلامي الراهن للمدينة، بالنظر لأدوارها الإشعاعية الواسعة التي شملت مجالات واسعة، جمعت بين الفكر والإبداع والعمل الجمعوي والتواصل الإعلامي الورقي والإلكتروني، بجرأة كبيرة وبإقدام استثنائي وبحيوية مثيرة، وقبل كل ذلك، بحب كبير لفضاءات مدينة القصر الكبير وبعشق صوفي للوجوه وللأمكنة وللرموز التي تضفي صفة البهاء على مكونات هذه المدينة. لقد استطاعت أسماء التمالح تحويل مدونتها الإلكتروني إلى واجهة مشرعة لضمان تواصل نخب مدينة القصر الكبير مع محيطها المحلي والوطني والدولي، بل وإلى محطة لابد منها عند كل محاولات تتبع عطاء المدينة، اجتماعيا وثقافيا وفكريا وإبداعيا. فعبر العديد من التغطيات الراصدة والمقالات الموازية، استطاعت أسماء التمالح توفير واجهة للرصد المتواصل لتفاصيل كل الخصب الذي تنتجه مدينة القصر الكبير، وكذا لجزئيات كل عناصر توهج الذاكرة الفردية والجماعية التي تعطي لمدينة القصر الكبير ألقها الكبير وتوهجها المستدام. وبهذه الصفات، تحولت أعمال التمالح إلى مرجع لا يمكن تجاوزه –بأي حال من الأحوال- عند كل محاولات التوثيق لإبدالات المشهد الثقافي المحلي لمدينة القصر الكبير، وكذا لمعالم تشعب عطاء نخبها المبدعة والمنتجة للأفكار وللرؤى وللمشاريع الثقافية الكبرى.
وإذا كانت الكثير من منابر النشر، العام والمتخصص، قد أضحت تنحو نحو الانتقال من الإصدار الورقي إلى الإصدار الإلكتروني، فإن أسماء التمالح قد غيرت اتجاه هذا المنحى، بتوجهها نحو الانتقال من النشر الإلكتروني إلى النشر الورقي، وذلك من خلال كتابها “مكاشفات في الأدب والفن والإعلام”، الذي رأى النور عند مطلع السنة الجارية (2017)، في ما مجموعه 195 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وفي الحقيقة، فالعمل يعتبر استثمارا لجهد طويل وممتد في الزمن، استهدفت –من خلاله- صاحبته سبر أغوار عوالم الإبداع والعطاء لدى قطاعات واسعة من مبدعي المغرب الراهن ومفكريه المتميزين. دليل ذلك، هذا الانفتاح الواسع على عوالم هؤلاء المبدعين الذين صنعوا تجارب على تجارب، ومسارات على مسارات، وأرصدة على أرصدة، كان لابد من التوثيق لمنعرجاتها “ورقيا” حتى لا تضيع نتائجها ومضامينها داخل دهاليز العوالم الإلكترونية الاستهلاكية اليومية. ولقد أجمل الدكتور مصطفى يعلى القيمة المركزية لهذا الإصدار، بشكل دقيق، عندما قال في كلمته التقديمية: “… ها هي هنا بإصدار هذا الكتاب النوعي… تسجل علامة فارقة في مسارها الإعلامي التفاعلي، فتقيم الدليل على مدى جديتها، وبلورة تجربتها الإعلامية، وتطوير نشاطها الثقافي، حيث سعت إلى محاولة الجمع بين ما هو إلكتروني وما هو ورقي. على أنه يمكن موضعة كتابها هذا ضمن موجة محتشمة من الإصدارات الحوارية المماثلة، التي برزت في المغرب في الآونة الأخيرة. لقد تمكنت التمالح من خلال هذه المكاشفات، بما طرحته من أسئلة استنباطية ذكية رغم موضوعيتها، أن تستدرج المحاورين إلى البوح بما لذواتهم من صلة بإبداعهم وكتاباتهم، وتسليط الضوء على كثير من تفاصيل تجاربهم، واستجلاء أذواقهم ومفاهيمهم ومواقفهم، وهو ما يزيد في توضيح إنتاجهم وكشف أبعاده وأسراره أمام المتلقي…” (ص. 5).
في إطار هذا الأفق العام، اختارت أسماء التمالح اختراق العوالم المصاحبة لجرأة الكتابة لدى الذوات الفاعلة، من خلال أسئلتها التفكيكية ورؤاها التركيبية التي تعيد بناء الشخصيات والفضاءات والتمثلات التي تنهض عليها قيمة الكتابة والإبداع والتفكير والخلق. لا يتعلق الأمر بحوارات صحفية سريعة، بقدر ما أنها “مكاشفات” تتقن الإنصات لنبض التحول لدى ذات المبدع والكاتب، ولنظيمة العناصر المكونة والمتداخلة في بناء الشخصيات والتجارب وفي تخصيبها وإغنائها المتواصلين.
ولقد وزعت المؤلفة مجالات استنباطها لتغطي حقول الآداب والفن والإعلام، من خلال سلسلة الأسماء التي شكلت مواد الكتاب. ففي باب الكتابة الأدبية السردية، أدرجت المؤلفة حوارات مع الأساتذة مصطفى يعلى، ومحمد أنقار، ورشيد الجلولي، ومحمد سعيد الريحاني. وفي محور “البحث الجامعي”، أدرجت حوارين مع الأستاذين عبد الله بن عتو ومحمد احميدة. وفي محور “الشعر”، نجد حوارات مع الأساتذة أحمد الطود، والطيب المحمدي، وأمينة الصيباري، وأمل الأخضر. وفي باب “الكتابات النقدية”، أدرجت المؤلفة حوارين مع كل من الأستاذين مصطفى الغرافي وأبو الخير الناصري. وفي المجال الفني، نجد حوارين مع الفنانين المختار غيلان وزكرياء التمالح.
أما في المجال الإعلامي، فقد أعادت المؤلفة نشر إحدى الحوارات التي كانت قد أجرتها معها إحدى المواقع الإلكترونية، إلى جانب حوارين مع الأستاذين محمد سمير الريسوني ومحمد الموذن.
وعلى الرغم من أن مجمل هذه الحوارات قد انشغلت بقضايا ثقافية وفكرية وإعلامية عامة تغطي أنساق الإبداع الوطني الراهن في تعدد مكوناته وتفرعاته الجغرافية، فإن حضور مدينة القصر الكبير يظل لافتا من خلال سلسلة الرموز وأرصدة المنجز الثقافي المرتبط، ليس فقط بسير المبدعين ضيوف أسماء التمالح في هذا الكتاب، ولكن –كذلك- من خلال الانفتاح على مجمل التحولات الذهنية التي طبعت أداء نخب المرحلة، لتجعل من المدينة أفقا مشرعا أمام رحابة السؤال والتفكيك والاستلهام التخييلي لقيم الجمال والخصب والعطاء. وفي هذا الجانب بالذات، تبدو أسماء التمالح أكثر انفتاحا على حقول التاريخ الثقافي الراصد للتجارب والقابض بأنماط التجديد المعرفي الذي لا شك وأنه يعيد لمدينة القصر الكبير تألقها المتميز داخل محيطها الوطني، ضدا على تكلس المرحلة وضدا على انكسارات تغيرات الواقع العنيد.