مر على الناس زمان كانت مناصب المسؤولية تعرض على الأكفاء المشهود لهم بالحكمة وحسن التدبر والاتزان، فكانوا من شدة الخوف على أنفسهم من الانزلاق نحو المعاصي وأنواع الانحرافات تحت تأثير عدة مغريات، تكون سببا في ظلم العباد وزيادة في تفقيرهم وحرمانهم، يرفضون هذه المناصب، ويخشون تحملها لثقلها الكبير، ولجسامة تبعاتها التي تترتب عنها مجموعة من الجزاءات، منها الدنيوي والآخر الأخروي.
يستوجب تقلد منصب المسؤولية تضحيات كبيرة، وإخلاصا قويا في العمل، وتتطلب – المسؤولية -روحا تقية نقية، لا تستجيب للرغبات والأهواء، وتستحضر وجود الخالق كرقيب حسيب، ومراعاة حقوق الناس كواجب يلزم حفظه وتأديته بالوجه المطلوب.
نسجل في عصرنا الراهن تهافت الأغلبية على مناصب المسؤولية، مع الحرص الشديد على بلوغ درجاتها العليا، حتى ولو لم تتوفر في المتنافسين الشروط الموضوعية والمؤهلات التي تمكنهم من حسن أداء الواجب.
الكل في تسابق وتهافت، ينهج جميع السبل المشروعة وغير المشروعة للوصول، ليس محبة في قضاء أغراض الناس وخدمة مصالحهم، ليس سعيا لإحقاق الحق ودحض الباطل، ولا رغبة في تقاسم المسؤوليات والواجبات، إنما حبا في المراكز وبلوغ أوجه السلطة، وحبا في الاستفادة من الامتيازات الممنوحة، وقضاء لمصالح شخصية ومآرب عائلية على حساب الأخرى العامة، فتتكون لديهم ثروات، ويغتنون غنى فاحشا، ويتحكمون في العباد، يذلون ويقهرون من لا مصلحة تجمعهم بهم، ويجاملون وينافقون من يربطهم بهم روابط معينة ذات طابع مصلحي أو مادي بالأساس.
فرق كبير وشاسع بين من يتحلى بمميزات خلقية كثيرة، تعرض عليه مناصب القرار و يخاف على نفسه من تقلدها، وبين من هو يفر إليها ويجري وراءها في لهفة واقتتال، فالأول ينظر للأمر من جانب عظم المسؤولية، وكلمة مسؤولية في حد ذاتها مرعبة بالنسبة له، تضعه بين مطرقة العمل وسندان الإخفاق أو النجاح، النعيم أو الجحيم، إذ كل تهور أو استهتار يحسب عليه، بينما الثاني إنما يتصارع لأجل ذاته، لأجل أن يصير مشهورا بين الناس، فيتوددون إليه لقضاء حوائجهم، ويقصدونه لحل مشاكلهم وما هو بمتفرغ للإنصات لهم، فكيف له بأن يعالج قضاياهم.
إذا كان واقعنا المعاصر قد أطلعنا في العديد من المرات، عبر أحداث مختلفة، عن جوانب المسؤولية المغيبة في عدة قرارات تصدر، وفي عدة حالات تشيع وتنتشر بمجتمعاتنا، فإن التاريخ الإسلامي يحفظ بأمانة وجودها، وذلك عبر نماذج شخصيات إسلامية مشرفة، كان يلزم أن تتخذ قدوة من اللاحقين لسابقيهم، وكمثال نذكر أبا بكر الصديق، الذي يعتبر أحد رجالات الإسلام المشهود لهم بالأمانة في التعامل وفي المسؤولية، بالكفاءة والإقدام على فعل الخيرات، وبكونه رجل المهام البطولية والمواقف الصعبة، صادقا قولا وفعلا، والذي في وقت وجيز نجح في النهوض بأعباء الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقق مجموعة من الإتجازات، واجتاز العديد من العقبات، امتثالا لقول المصطفى صلوات الله عليه وسلامه : ” كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته” .
لم يكن سابقونا يخافون من ملاحقة القانون لهم في حال الإخلال بمسؤولياتهم، ولا يهابون عيون رجال الدولة وهي تترصد جرائمهم في حق الإنسانية، إنما كان خوفهم من أعظم قوة تجسدها قوة رب العالمين، هذا الخوف الذي كان يقودهم إلى الإخلاص والتفاني وإلى الوفاء بمسؤولياتهم، ابتغاء وجه الله ومرضاته، حتى لو تطلب الأمر أن يخرجوا من مالهم الخاص، ويجودوا بأرواحهم في سبيل تحقيق ذلك.
هذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جفنه لا يغمض من خشية الله، ومن خشية التقصير في أداء مسؤولياته وواجباته، ها هو يقول : ” إذا نمت في الليل، ضيعت نفسي، وإن نمت في النهار، ضيعت رعيتي، وأنا مسؤول عنهم”. وها هو أيضا يقول مستحضرا قيمة المسؤولية وجسامتها : ” لو ماتت شاة على الفرات ضائعة، لظننت أن الله سائلي عنها يوم القيامة”.
شخصية عمر بن عبد العزيز لم تكن إلا رمزا آخر من رموز الإعتناء بروح المسؤولية وجوهرها، لم يكن يطمع في مناصب المسؤولية أو يريدها، فيسعى إليها جاريا كما هو سائد اليوم.
لقد عرضت الخلافة على عمر بن عبد العزيز ورفضها، ولولا اصرار المسلمين عليه بسبب ما عرفوا عنه من عدل وشهامة وتقوى الله، وهو الذي قلق بشأن هذا العرض قلقا كبيرا، دفعه لأن يصعد منبر أحد المساجد يوما ويقول: لقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه، وعلى غير مشورة من المسلمين، وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم، فلم يكن من المسلمين إلا أن أصروا عليه أكثر أن يكون خليفة لهم، فصاحوا بصوت واحد: بل إياك نختار يا أمير المؤمنين، فإذا به – عمر بن عبد العزيز – يبكي حرقة من ثقل التكليف.
لقد كان هم عمر بن عبد العزيز كما غيره، أن ينعم كل الناس بالرفاهية والخير والكرامة والعزة، فلا يقع بصره على عيون دامعة من شدة الفقر والحاجة والحرمان، ولا على نفوس مقهورة من الظلم والفساد، أو قلوب مكسورة من اليتم ومن فقدان معيل كان يتكفل بعموم المصاريف.
هي المسؤولية في أبهى تجلياتها، مسؤولية اتجاه الغير و اتجاه النفس، من غير ضرر ولا ضرار، من غير اعتداد بالتشريف وترك للتكليف، من غير خداع أو نهب أو تسلط أو نفاق ومداهنة، من غير تسلق غير شريف ووصول غير نزيه، ويا ليتنا نستفيد من دروس سابقينا، كنا وفرنا على أنفسنا متاعب كثيرة، وكفيناها شر تضييع الحقوق ومزيد من الوقت الثمين.