مكاشفاتنا الحوارية تأخذنا هذه المرة إلى شخصية قانونية متميزة، شخصية شبابية معروفة بجدها ونشاطها المستمر، قاضي متخصص في مجال القضاء التجاري، يترأس نادي قضاة المغرب منذ 2014 إلى اليوم، اسمه عبد اللطيف الشنتوف، مزداد بمدينة القصر الكبير، حاصل على الإجازة في الحقوق سنة 2003، وعلى ماستر في تخصص قانون الأعمال سنة 2009، وعلى الدكتوراه بنفس التخصص سنة 2013. أجرينا معه هذا اللقاء، وطرحنا عليه أسئلة مختلفة، تعلق بعضها بقطاع العدالة، وبعضها الأخر بمواضيع متنوعة . ما تضمنه الحوار نكتشفه سويا من خلال هذا النص الكامل :
سعداء بحضوركم بيننا دكتور عبد اللطيف الشنتوف، في هذه الجلسة الحوارية، ومسرورون أكثر بتلبيتكم دعوة المدونة، وإذ نوجه لكم شكرنا الخالص، ونقدم لكم تقديرنا العظيم.
نود في البداية لو تقربون القراء والمتتبعين من شخصكم النبيل ؟
في البداية الشكر لكم أنتم على اتاحة هذه الفرصة لي، للتواصل مع قراء مدونتك الرائعة، التي أقامت منذ مدة جسرا تواصليا مهما بين المتتبعين من ساكنة مدينة القصر الكبير العزيزة، ومع العديد من أبناء المدينة الذين حتمت عليهم ظروفهم الاشتغال خارجها .
وعن التعريف بشخصي، فإن اسمي الكامل هو ما تكرمت به في التقديم، عبداللطيف الشنتوف، من مواليد 1980 ، عشت طفولتي بمدينة القصر الكبير ، ودرست في كتاتيبها القرءانية ومدارسها بمختلف المراحل، إلى أن حصلت على شهادة الباكلوريا، واتجهت منها مباشرة إلى مدينة الرباط للتسجيل في الكلية، بشعبة الفلسفة أولا ، ثم التغيير إلى شعبة الحقوق، وحصلت من هذه الشعبة على الاجازة في القانون الخاص سنة 2003، والحتقت بعدها بمؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط ، فحصلت منها على دبلوم الدراسات العليا سنة 2006 ، ثم عدت للحقوق وحصلت على ماستر في تخصص قانون الاعمال سنة 2009، وبعد شهادة الدكتوراة بنفس التخصص سنة 2013 ، وخلال هذه المرحلة عملت بوزارة الاوقاف لسنة ونصف، ثم التحقت بالقضاء بعدها .
كان تعييني بالقضاء اول مرة بالمحكمة الابتدائية بمدينة تاونات، ثم انتقلت بعدها الى الرباط بالمحكمة التجارية، كما كنت من مؤسسي جمعية نادي قضاة المغرب، سنة 2011 التي اترأسها منذ 2014 إلى الآن، والمرصد الوطني لاستقلال السلطة القضائية سنة 2013 .
تعتبر مدينة القصر الكبير مسقط رأسكم ومدينتكم الأم، أي شعور يخلفه هذا الانتماء بداخلكم؟ وأي ذكريات تحملونها لهذه المدينة بعد بعدكم عنها بسبب ظروف العمل والاقامة خارجها؟
طبعا الانتماء لمدينة القصر الكبير التي أنجبت العديد من الشخصيات، في مختلف الميادين الفكرية والعلمية والفنية والسياسية، هو مبعث سرور وافتخار لي ولكل من ينتمي إلى هذه المدينة العريقة .
وبحكم الطفولة التي عشتها بهذه المدينة، فإني أحتفظ بالعديد من الذكريات المرتبطة بهذه المرحلة، بحيث إنني كالباقي في فترة الطفولة والمراهقة والشباب، لعبت الكرة بمختلف أماكن المدينة، ومنها ملعب سيدي عيسى بنقاسم، وقمت بالسباحة في واد الجديد (اللوكوس)، وغير ذلك مما يعرفه و يعايشه سكان المدينة .
من أين نبع اختياركم لمهنة القضاء ؟ ولماذا القضاء التجاري بالتحديد ؟
اختياري للقضاء كان بالصدفة فقط ، بحيث أنني طيلة مرحلة تعلمي وخاصة بالثانوي، لم أكن من عشاق مواد الضبط (الرياضيات وغيرها ..والقانون بشكل او بآخر وفي جانب منه ينتمي إلى هذه المواد ولو أن أهله يرفضون هذه الفكرة…) وإنما كنت من عشاق المواد الفكرية، لذلك قمت أولا بالتسجيل في مادة الفلسفة ، لكن وبحكم انتقالي للرباط واطلاعي على واقع آخر مختلف تماما عن أحلام المدن الصغيرة، تولدت لدي قناعة أنه لا بد من الاشتغال بالمواد العلمية التي سوف تضمن لك وجودا على مستوى الحياة بشكل عام، وسوق الشغل بشكل خاص، فقمت على الفور بتغيير الشعبة، وفعلا كان اختيارا في محله ، ومن بعد كان أمامي إما القضاء أو المحاماة، فكان القضاء هو من سبق ويمكن العودة إلى المحاماة لاحقا.
وأما عن تخصص القضاء التجاري، فالأمر له علاقة بتخصصي الدراسي، حيث كما قلت لكم تخصصي هو قانون الاعمال ، وموضوع أطروحتي للدكتوراه كان هو “القضاء الاستعجالي في المادة التجارية” .
المتابع لتشاطاتكم وتحركاتكم يدرك أن وقتكم مملوء عن آخره بالمهام والالتزامات. كيف يوازن الدكتور الشنتوف بين واجباته المهنية والأخرى الأسرية علما أنكم أب لأطفال يحتاجون الرعاية والاهتمام الأبوي؟
صحيح الأخت أسماء ، منذ أن دخلت العمل الجمعوي، أصبح وقتي جد ضيق، رغم أنني أحاول ما أمكن العمل بتنظيم معين، ولكن أحيانا تُفرض عليك أحداث لا تترك لك مجالا للتنظيم، والسبب في ضغط الوقت الذي يعود أولا إلى أن العمل الجمعوي القضائي المتعدد في المغرب حديث، وبالتالي تم تسليط الضوء عليه بشكل كبير ، أمام عدم الاستفادة من أي تخفيف مهم في العمل المهني القضائي، الذي وحده يحتاج لوقت كبير جدا ، ويستغرق وقت العمل الإداري والعطل ووقت الراحة في بيتك، فضلا عن واجبات المنزل ، حيث لدي طفلة واحدة أحاول ما أمكن أن اجد لها وقتا.
يعرف القضاء المغربي مجموعة من المشاكل والاختلالات والتعقيدات، أمام هذا الواقع الذي يطبعه الكثير من التوتر، هل انتابتكم مشاعر الندم يوما على اختياركم هذا المجال ؟
بصراحة نعم، في الكثير من الأحيان أتساءل ما الذي أدخلني إلى هذا المجال الذي يفقد فيه أغلى ما يملك الانسان، وهو الحرية في عمل كل شئ، وقول كل شئ دون أن تقوم في كل كلمة تريد قولها بوزنها بميزان دقيق جدا.
فضلا عن أن السلوك القضائي في المغرب، لا يستند إلى أعراف علمية متعارف عليها، تؤسس لمبادئ معينة كالحياة العامة والحياة الخاصة له، بل فقط هناك تقاليد تجنح دائما للمنع (لا أتحدث عن القانون)دون تفسير مقنع ، كما أن تمثل الناس للمنظومة القضائية تجعلهم يحملون القاضي أكثر مما يملك ، ولا يتعاملون معه على أنه يؤدي جزءا من عمل معين داخل عملية قضائية طويلة ، وبالتالي فالمنتوج القضائي لا يمكن أن نحاسب عليه القاضي وحده.
إذن كل هذه الأشياء تجعل الإنسان أحيانا يعيد طرح السؤال التقليدي، وهو : ما الذي أدخلني إلى كل هذا ؟ ولكني أتغلب على هذه الأفكار بالإيمان بمبدإ القدر ، وأننا نؤدي وظيفة معينة في حدود استطاعتنا، و ما من أحد قادر بمفرده على التغيير الكلي، وبالتالي بيقى أن يجتهد كل منا في حدود ما يقدر عليه، مع ضرورة الإيمان بفكرة التدرج في التطور نحو الأحسن .
نادي قضاة المغرب جمعية مهنية لإسماع صوت القاضي المغربي. هل نجح النادي في ايصال رسائله إلى المعنيين بالأمر أم لازال الطريق طويلا ؟
طبعا كما قلت لك التغيير هو صيرورة، ولا يوجد تغيير حصل في العالم فجأة، فمعظم الدول المتقدمة في شتى المجالات، ومنها المجال القضائي، تجد أن عملية التغيير لم تحصل عندهم بوضع قوانين، بل حصل التغيير عندهم نتيجة الوعي الجماعي بهذا التغيير والحفاظ عليه، وهذا هو المهم، أما أمر وضع الضوابط والقوانين فسهل جدا.
واما نادي قضاة المغرب، فقد نجح في أشياء ، ولا زال أمامه (ولا أقصد الاسم تحديدا بل أي حركة قضائية جماعية) طريق طويل جدا، كما أن هذه الطريق لن تكون سهلة طبعا، وسوف تكون هناك اكراهات جمة حتى من داخل التكتل ، ولكن الجيد في الأمر أن هناك إصرار على المواصلة من طرف الزملاء.
ماهي أبرز المشاكل التي تعترض طريق القاضي المغربي بشكل عام، وقاضي المحكمة التجارية بوجه خاص، مما يعيق السير نحو محاكمة عادلة؟
هناك مشاكل تواجه القاضي كفرد، وهناك مشاكل تعاني منها المنظومة :
على مستوى القاضي الفرد ، هناك مشكل عدم مواكبة القاضي في عمله، إذ عندما يتم تعيينك في محكمة معينة، تحس وكأنه تم الزج بك لتواجه مصيرك المهني ، وهنا يواجه القاضي اكراهات عملية متربطة بعمله الذي لا يجب أن يخطئ فيه، لأنه تحت مجهر المراقبة المتعددة، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية، وهذه الأخيرة أكثر من الأولى ، كما أنك تواجه وضيعات أثناء العمل، ويجب ان تتعامل معها بسلوكيات معينة، لأنك لا تعمل لوحدك فهناك عدة متدخلين في المجال ، فضلا عن أنه يطلب منك كواقع وكتمثل أن تعيش وفق أنموذج محدد، وأنت لا تملك مقومات ذلك الأنموذج لا ماديا ولا معنويا، فضلا عن كثرة القضايا الرهيبة التي تجعل أغلبنا يشتغلون ليلا ونهارا دون جدوى .
أما المنظومة القضائية، فتعاني من عدة مشاكل أكثرها مرصود في تقارير رسمية، منها مشكلة القوانين التي لم تعد مواكبة، والبنيات الهيكلية القضائية، وعدم عقلنة العمل وترشيدة، مما يؤثر على جودته وطول مسطرة التقاضي، ومشكلة التنفيذ وغيرها.
ينفتح نادي قضاة المغرب على مجموعة من التجارب الدولية في قطاع العدل، عن طريق ابرام مجموعة من الشراكات والسفريات المتبادلة. ما تقييمكم لكل التجارب التي اطلعتم عليها دوليا؟ وهل قطاع العدل بمملكتنا في وضع تنافسي أم في وضع يدعو للقلق الكبير مقارنة مع غيره ببلدان المعمور؟
التجارب الدولية في المجال القضائي التي اطلعت عليها، كما قلت لك تستمد قوتها ليس من النصوص، وإنما من الوعي المجتمعي، والتراكمات التي حققتها، والتقدم الموجود في كافة المجالات القطاعية داخل الدولة، بدءا بالمجال السياسي، وبالتالي فلا ننتظر -مثلا – في بلدنا أن يكون القضاء وحده متطورا ومتقدما، بينما قطاعات أخرى كالتعليم والصحة وغيرهما غير متطورة، هذا لا يتصور، فالتطور هو عملية شاملة وليست تجزيئية.
تتحرك سلطة القانون غالبا بالزجر والردع، وقليلا ما نرى لها حضورا بنفس الكثافة عندما يتعلق الأمر بتمكين الناس من حقوقهم المشروعة على أرض الواقع. لماذا هذا التصادم خصوصا وأن خصائص القاعدة القانونية لا تقف عند الجزاء فقط؟
كما تعلمين الأخت أسماء، النصوص القانونية تنظم سائر مناحي الحياة، من الزواج والطلاق إلى ارتكاب جرائم خطيرة في المجمتع ، مرورا بالقضايا المدنية والإجتماعية وقضايا الحريات وغيرها .
لكن هذا القانون غير مسؤول عن التطبيق، ولا عن واقعنا، نحن جميعا كدولة وأفراد من يتحمل مسؤولية تدبيره كل فيما يخصه .
ما أود ان أقوله هنا، هو أن القانون ليس مسؤولا عن واقعنا الذي يجب أن نرتقي به بكافة الأشكال القانونية المتاحة، فإذا وجدنا مثلا كثرة الجرائم في منطقة معينة، فإن القانون ليس هو المسؤول عن هذه الجرائم وبالتعبيثة تطبيق الجانب الزجري عليها، وإنما المسؤول هو سياسات معينة تعليمية تنموية واقتصادية، مع أن القانون نفسه له اسهامات أخرى لا تظهر كثيرا، والمتمثلة في الفصل بين الناس، في مختلف القضايا المدنية والتجارية والأسرية وقضايا الشغل .
لكنك تقصدين بسؤالك أيضا قضايا الحقوق والحريات، هذه أيضا يجب على الجميع وخاصة المجتمع المدني الذي له مكانة دستورية مهمة، أن يقوم بدوره في هذا الجانب ، ففي الكثير من الأحيان تكون الحقوق موجودة، و الإشكال يكون فقط في ممارستها، ولهذا يتم الحديث الآن في الدول ليس عن القانون فقط، وإنما عن ما يسمى بالتقاضي الاستراتيجي ، أي يمكن للجماعات والأفراد إثارة قضايا حقوقية وربحها من خلال القضاء.
من أهداف نادي قضاة المغرب المسطرة، الدفاع عن الضمانات الأساسية لحقوق وحريات المواطنين، والدفاع عن السلطة القضائية واستقلالها .هناك صراع قائم منذ فترة من أجل استقلال السلطة القضائية عن باقي السلط . أين وصل الأمر؟ وهل من جديد في الموضوع؟
طبعا، موضوع استقلال القضاء لا يمكن أن يحسم بين سنة أو سنتين، الأمر يحتاج إلى نفس طويل، وتراكم تجارب وتطور على كافة المجالات المعيشية للبلاد ، ولكن تم القيام بخطوات مهمة دستورية وقانونية، ولو أنها بطيئة فهي مع ذلك مهمة ،نتمنى لها فقط أن تستمر .
برأيكم دكتور لماذا يتخلص قطاع العدل من رجال العدل ( القاضي الهيني مثالا) ؟
نحن في النادي تأسفنا غاية الأسف بل واتخذنا مواقف علنية في قضية الدكتور الهيني محمد وعزله من القضاء ، وكنا نقول أن هذه القضية كان يمكن معالجتها بطرق أخرى غير العزل من القضاء، لأنه كيف ما كان الحال، الرجل لم يعرف عنه طيلة مشواره القضائي الممتد ل 17 سنة أنه كان غير نزيه، وهذا لوحده كاف ، أما باقي التفاصيل فلها عدة حلول ، ولكن ما حصل مؤسف ، وقد اعتبر النادي في بلاغ له عقب إعلان عزل الأستاذ الهيني أن الهدف من ذلك هو اسكات القضاة.
يروج أن القانون رقم 88.13 الخاص بالصحافة والنشر صيغ صياغة ذات حمولة قانونية غير واضحة . هل هذا صحيح؟ وكيف ترون مستقبل الصحافة – الالكترونية خاصة – ببلادنا في ظل التوترات المتصاعدة ؟
كل ما يمكنني قوله في هذا الموضوع، هو أنه سبق لنا في النادي سنة 2013 على ما أعتقد، أن طالبنا في بيان رسمي بتوسيع حرية الصحافة، وضمان ممارستها في مناخ أفضل، بل وطالبنا كجمعية بإلغاء العقوبات السالبة للحربة من القوانين التي تهم المجال الصحفي بشكل عام.
قلتم في منشور لكم : ” ما وضعت القوانين ومساطرها بطرق منظمة الا للوقوف عندها لأنها كيف ما كانت تضمن عدم الوقوع في الفوضى” . ما أصل الفوضى التي تغرق فيها اليوم مؤسساتنا وإداراتنا ومجتمعاتنا؟
هي عدم احترام القوانين في الكثير من الاحيان .
ما هو أطرف موقف عشتموه بحياتكم المهنية، وما هي أصعب منازعة قضائية فصلتم فيها؟
أصعب القضايا التي كنت أحس فيها بثقل المهمة، هي تلك القضايا الخاصة بالأراضي أو العقارات، حيث تزيل الحق لهذا وتعطيه لذاك بسبب الاثبات والوثائق، بينما الحقيقة لا يعلمها إلا الله … و تستحضرني هنا رواية الكاتب الشهير ” ايمل زولا ” عن الأرض.
نجدد تحايانا لكم دكتور، ونسأل الله تعالى لكم التوفيق والسداد، ونترك لكم الكلمة الختامية لهذا اللقاء؟
أشكركم جزيل الشكر الأستاذة أسماء على هذا اللقاء ، وأتمنى لك ولمدونتك النجاح والاستمرار، وأن تلقى الدعم الكافي من جميع الجهات، لأنها فعلا تقوم بدور تواصلي كبير وبطريقة مختلفة في هذه المدينة العزيزة.