الماء أولا وثانيا وثالثا ….
تقتضي الحياة الرتيبة أن يكسر المرء روتينها اليومي ببعض الخرجات والنزهات، بعيدا عن جدران البيت من حين لحين، رغبة في الانفتاح على عوالم أخرى، ولإضفاء دينامية جديدة على الحياة بشكل عام.
تكون الوجهة غالبا نحو المطاعم والمقاهي. وإن لمطاعم الصحراء ومقاهيها طابعا خاصا، قصدت العديد منها رفقة أهلي، وجلست بها صحبتهم نقضي أوقاتا ممتعة.
كان نظري دوما يتركز على الطاولة، حيت كانت تختفي من عليها دوما مادة حيوية، تعتبر جد مهمة فوق أي مائدة طعام، إلا موائد المطاعم الصحراوية، اكتشفت أنها مستثناة لديها من الحضور.
لقد تكلم القرآن الكريم عن هذه المادة، وقال سبحانه وتعالى: ” وجعلنا من الماء كل شيء حي”. وبما أننا في حضن الصحراء، فقد وجدت هذه المادة مشكلات عدة بالصحراء، لها ارتباط وثيق بها. فكيف يعقل أن تقدم وجبات الطعام للزبائن، دون إرفاقها بقنينات ماء؟ ماذا لو حصلت غصة للزبون أثناء تناوله الأكل؟ لماذا يجبر الزبون على أداء مبلغ إضافي خارج عن ثمن الوجبة، إن رغب في تزويده بالماء الشروب وهو يأكل؟
كانت هذه الأسئلة تراودني عند كل جلسة مطعم أو مقهى، وأنا من تعودت على حضور الكأس وقارورة الماء على موائد المطاعم بمناطقنا الأخرى، إلى درجة أنني أحيانا كنت أنزعج من وجودها، وأبعدها إلى الجانب، مخافة أن تقع أرضا في غفلة منا وتنكسر، فتفسد علينا جو متعة الجلوس والحديث.
لطالما ارتبط اسم الصحراء بالأرض القاحلة، التي لا زرع فيها ولا ماء. وقد كانت هذه المعلومة كافية لإقناعي بأن اختفاء الماء على موائد المطاعم الصحراوية أمر عادي، وندرته بالمنطقة أيضا مسألة ليست بالغريبة كما تخيلت في البداية.
مشكلات الصحراء مع الماء لاحصر لها، فإذا كان الزبون في مطاعمها ومقاهيها يفطن لعملية جلب قارورة ماء معه من دكان ما، أو طلب توفيرها له بالمكان، مقابل ثمن خاص لا علاقة له بثمن الوجبة أو المشروب الذي يتناوله، فإن الأمر لايعدو أن يكون امتدادا لما تعانيه الصحراء من فقر في هذه المادة الأساسية للحياة، حيث المياه المتوفرة بأغلب البيوت والمنازل هي مياه غير صالحة للشرب، وغير منصوح بها طبيا، لما لها من أضرار صحية، ولكونها غير معالجة بالشكل الصحي المطلوب، حتى أن أهل الصحراء يطلقون عليها اسم ” العيافة “.
فالعيافة هي ماء متوفر بجل المنازل بقدر محدد، يستعمله الناس في عمليات الغسيل والتنظيف، وكل ما له علاقة بالاستعمال السطحي، في الوقت الذي هم مضطرون لشراء الماء الصالح للشرب، بشكل يومي أو أسبوعي أو نصف شهري، كل حسب إمكانياته المادية، إما من أصحاب الدكاكين الموجودين بالحي، وإما من أصحاب شاحنات الماء ( الكوبا ) التي تعبر الأحياء والشوارع على رأس كل ساعتين أو أقل أو أكثر لتزويد السكان بالماء الشروب بمقابل ( ماء طانطان، الريان..).
فقراء الصحراء لا يتوفرون في منازلهم حتى على “العيافة”، مما يضطرهم إلى اقتنائها واستعمالها استعمالا متعددا بما فيه الشرب كما بلغني.
مما لا شك فيه، أن شاحنات الماء هاته تقدم خدمات جليلة لسكان الصحراء، وتنقذهم من العطش، وتمكنهم من الاستفادة من استعمالات الماء غير المحدودة، بيد أنها تصدر صوتا مزعجا ومرعبا في ذات الوقت، شبيها بصوت القطار، حين يدخل السكة الحديدية بالمحطة الرئيسية، مما يجعل معظم الساكنة لا يطيقون سماعه، لأنه يقلق راحتهم، ويرعب صبيانهم كما يقولون، ويفسد عليهم نومهم صباحا باكرا أو في بقية النهار، فهذه الشاحنات صوتها مرتفع وهي تمر بالشوارع والأحياء، الغاية من ذلك لفت أسماع الناس إليها، وإخبارهم بتواجدها كي يحضروا أنفسهم لاقتناء الماء، ويخرجوا أوانيهم لملئها به، أو ليمكنوا أنابيب الشاحنات من الوصول إلى مساكنهم العلوية عند اللزوم.
في انتظار حل ناجع لمشكلات الماء، يتعايش أهلنا الصحراويون مع واقعهم، وأملهم كبير في أن معاناتهم ستصير يوما ما في خبر كان. إن من زين مدينة العيون بنافورات تنساب منها المياه في حركات ساحرة، وألوان زاهية، بمناطق مختلفة بالمدينة، لن تعجزه عمليات تحلية الماء وتوفيره صالحا للشرب لعموم الساكنة، وهذا ما نتمنى تحققه في مقبل الأيام.