مثلما نبّهتُ في مقال سابق على ضرورة التدقيق في مفهومي (النضال) و(الفساد) قبل وصف أحدٍ من الناس بالمناضل أو الفاسد، فإن كلمة (المعتقل) أيضا مما ينبغي التأني والتحري قبل إطلاقها على زيدٍ من الناس أو عمرو، خصوصا أن هذه الصفة صارت مَدعاةً للافتخار في كثير من الأحيان كما في حالة المعتقل السياسي الذي يُنظَرُ إليه نظرةَ تقديرٍ واحترام لِمَا قضاه من عقوبة حبسية بسبب آرائه التي يُفتَرَض أنها على قدر من الصواب والشجاعة في مواجهة السلطة الحاكمة.
مناسبةُ هذا الكلام ما شَهدتْه أصيلا يوم الجمعة 08 من غشت 2014 من اعتقال بعض الذين اختاروا تنظيمَ وقفةِ احتجاجٍ على موسم المدينة الثقافيِّ الدولي. فقد قرر عددٌ من سكان المدينة، بعد الفراغ من قضية توفير حافلات النقل العمومي بين أصيلا وطنجة، تنظيمَ الوقفة الاحتجاجية المذكورة؛ فكان أن قصدوا مكتبة بندر بن سلطان التي اختِيرَتْ لتحتضنَ وقائع افتتاح الموسم الثقافي؛ فقامت السلطات بإبعادهم عن مقر الافتتاح، قبل أن تعتقل اثنين منهم قرب المكتبة.
ثم فوجئنا، نحن السكانَ، بخبر منشور على صفحات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) وببعض المنابر الإعلامية الإلكترونية والصحف الورقية مفاده أن القوات الأمنية اعتقلت عشرة محتجين !
ولم تَمضِ سوى ساعاتٍ بعد نشر خبر الاعتقال حتى شاهدتُ شريطا يعرض فعلَ الاعتقال، ثم التقيت بصديقٍ لي كان مع المحتجين قرب مكتبة بندر بن سلطان، فتأكدتُ من مشاهدة الشريط ومحادثة الصديق أن السلطات الأمنية لم تعتقل سوى شخصين اثنين ما كان ينبغي اعتقالهما ما داما يمارسان حقهما في الاحتجاج سلميا ودونما تهجم على أحد.
أما بقية مَنْ سُمُّوا معتقلين فلم تُقدِمِ السلطاتُ على اعتقالهم، بل إنهم هم الذين اختاروا ركوبَ سيارة الشرطة بعدما رأوا صديقاً لهم يُقتادُ إليها؛ فأخذوا يصعدونها واحداً تِلْوَ الآخر، وهذا ما لَمْ تُشِرْ إليه “التغطيات الإعلامية” التي لم تَكُنْ أمينةً في نقل ما وقع قربَ المكتبة كما هو الشأن بالنسبة لجريدة “الاتحاد الاشتراكي” التي نشرتْ في عددها ليوم 11 من غشت أنه ((فَوْرَ تَجَمُّعِ العشرات من المحتجين قبالة مكتبة بندر بن سلطان حوالي الساعة السادسة مساء، حيث تجري فعاليات المهرجان، وَشُرُوعِهمْ في رفع شعارات مناوئة لرئيس بلدية أصيلة، تَدَخَّلَتِ القُواتُ الأمنية بعنف مُبالَغٍ فيه من دون إشعار وسابق إنذار، وقامت باعتقال عشرة نشطاء ينتمون لأحزاب الاتحاد الاشتراكي، الاستقلال، التجمع الوطني للأحرار، العدالة والتنمية، والتقدم والاشتراكية..)).
وأمام هذا السلوك الذي أقدم عليه بعضُ المُحتَجّين، والمتمثل في اختيارهم ركوبَ سيارة الشرطة دون أن يُطلبَ منهم ذلك أو يُكرَهوا عليه، فإن لنا أن نتساءل قائلين:
– باستثناء شخصين اثنين تعرضا للاعتقال هل يُعتبر ركوبُ الآخرين سيارةَ الشرطة مُختارين وانتقالُهم على متنها إلى مقر المفوضية اعتقالا لهم؟
– هل يتفق فعلُ الاعتقال والاختيار والرغبة: اختيار مَنْ يُريد الاعتقال ويَرْغَبُ فيه؟
– هل يَفتح ما وقع بابَ الحديث عن “اعتقال اختياري” في مقابل الاعتقال الإجباري أو التعسفي؟
– ألا يُعدّ ما وقع طريقة – غيرَ مقصودة طبعاً – من طرق إفراغ صفةِ (المعتقل السياسي) من مضمونها وحمولتها الرمزية؛ إذ صار مُتاحا لأي أحد أن يَحْضُرَ إلى ساحة الاحتجاج والنضال، ويُقررَ في لحظة من اللحظات ركوبَ سيارة الشرطة دون أن يُؤمَرَ بذلك أو يُجْبَرَ عليه، ليُسَمَّى بعد ذلك معتقلا سياسيا؟
– هل نَقبَل أن يَكتب أحد المؤرخين مستقبلاً أن السلطات الأمنية اعتقلت عشرة مواطنين أمام مكتبة بندر بن سلطان يوم 08 غشت 2014م، في حين أنها لم تعتقل سوى اثنين نؤكد، مرةً أخرى، أنه ما كان ينبغي اعتقالهما ما داما يمارسان حقهما في الاحتجاج سلميا دون تهجم على أحد؟ وبصيغة أوضح: هل نقبل أن تُكتَبَ صفحةٌ من تاريخ مدينة أصيلا مُتَضمّنةً أحداثاً غيرَ دقيقة اعتمادا على “تغطيات صحافية” يَعتبرها الكثيرون المُسَوَّدَةَ الأولى لكتابة التاريخ؟ هل نقبل بأن نُضحّيَ بالحقيقة والدقة إرضاء لجهاتٍ إعلامية غيرِ أمينةٍ في نقل الوقائع؛ إما لكونها تخدم أهدافاً سياسية، أو لتصديقها بعضَ الروايات التي لا يَصْدُر أصحابُها عن دافع خدمة الحقيقة والجهر بها ولو كانت مُرّة قاسية؟
تلكم أسئلة للنقاش الذي يضع الحقيقةَ نصب عينيه ولا يهمه أن يُسلّم بها لخصومه ومعارضيه. وصدق الله العظيم القائل: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قَوّامين لله شُهَداءَ بالقِسْط، ولا يَجرِمَنَّكم شَنآنُ قَوْمٍ على ألا تَعْدِلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)) [سورة المائدة، الآية09] ((وإذا قلتم فاعدِلوا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى)) [الأنعام/ 153]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أصيلا في 23 من غشت 2014.