تأخذنا الرحلة الحوارية هذه المرة إلى مدينة فاس، حيث نلتقي بأديب فذ من أبنائها، انفتح على العالم بكتاباته ولم يعد مقتصرا على الكتابة للأدب العربي كما ذي قبل، بل سافر إلى عوالم الأدب العربي والغربي للنهل من منهله، والاستفادة من تجارب الآخرين.
السفر عنده حافز للكتابة، والكتابة مرتبطة بالعقل المتزن والسلوك الإنساني الرفيع، أما الإبداع لديه، فأساسه المعاناة وبدون معاناة لايمكن تحققه.
نرحب بالأديب الأستاذ العربي بنجلون، ونشكره على تلبية دعوة مدونة أسماء التمالح لإجراء هذا الحوار، كما نتمنى له المزيد من العطاء والانتاج الهادف ودوام الصحة والعافية، وأن يمد الله تعالى في عمره فيغني الساحة الثقافية والأدبية أكثر بإبداعاته.
مع أستاذنا العربي بنجلون دار الحوار التالي :
ــ ننطلق من مسقط رأسك، ماذا تعني لك فاس؟ وفيم اختلفت فاس الراهنة عن سابقتها في السنوات الماضية؟
ـ فاس، بأزقتها ودروبها ودورها الأندلسية وعادات وتقاليد أهلها، هي الشحنة التي دفعتني إلى العثور على ذاتي الحقيقية. كما أن كل أديب أو فنان، يجد في مدينته أو قريته، ذلك الحب الكامن بين جدرانها وفي أعماق أهلها. فارتباطي بفاس، لا يتميز عن ارتباط أي مبدع بمدينته، لأنها طبيعة الإنسان، التي تجعله لصيقا ببيئته الحضرية أو البدوية، مثل ارتباطه بوالديه وعائلته وأصدقائه.
ــ الأستاذ العربي بنجلون، باعتبارك ناقدا أدبيا، نراك تتعامل مع الأدباء الصاعدين بكثير من الحذر، فلماذا هذا الحذر، وما هي أسبابه؟
ـ ليس هناك أي حذر، لأن كتبي الأولى، كانت تطفح بأعمال نقدية، أو بقراءات لإبداعات الجيل الصاعد، لأنني في تلك الفترة، كنت شابا مثلهم، أحس بالغبن والتهميش من قبل بعض الكتاب. واستمر هذا الشعور معي، فأصبحت أعمالي لا تميز بين هذا وذاك إلا بقيمته الإبداعية. وأعترف أنني اليوم، انفتحت على العالم، لأنني في البداية، خصصت كتاباتي للأدب المغربي، أما اليوم، فقد توجهت إلى الأدب العربي والغربي، لأطلع على تجارب الآخرين. لكنني ما زلت أولي اهتمامي لأدب الشباب المغربي، وآخر ما أتناوله الآن، هو ديوان الشاعر الناظوري محمد يويو الموسوم بـ : الأسود الذي لا ترينه !
ــ انطلاقا من اهتمامكم بالطفل وعوالمه، هل يمكن اعتبار الكتابة للطفل عملية سهلة، أم تراها لا تقل صعوبة عن الكتابة للكبار؟
ـ ليست الكتابة للطفل ـ كما يعتقد الكثيرون ـ صعبة، إذا كان الكاتب متمكنا من خصائص الطفولة النفسية والفكرية واللغوية…لأن الكتابة للكبار، لا تلتزم بأية قواعد، ولا تراعي شروطا، أما الكتابة للصغار، فتتطلب معرفة الفئة المستهدفة، وخصائص كل فئة، لأن كاتب الطفل يصنع إنسانا للمستقبل، وأي اعوجاج في هذه الصناعة، سينعكس حتما على ذلك الإنسان، وعلى محيطه. فيجب أن يكون الكاتب ملما بعالم الطفولة، وما تتطلبه من طرق تربوية لبنائها على قواعد قويمة.
ــ ما هي في رأيك أسباب عدم اكتراث العالم العربي كما يجب بأدب الطفل وثقافته؟
ـ العالم العربي لا يهتم بالإنسان ككل، سواء كان صغيرا أو كبيرا، لأنه لا يدرك أهمية العلم والمعرفة في بناء الدول، ولا يدرك أن الذي يملك المعرفة، يملك القوة. كما أنه ينظر إلى الاهتمام بالإنسان، منذ الطفولة، سيشكل له خطرا على مصالحه الشخصية. ولهذا يلجأ المسؤولون إلى إعداد برامج تُجَهِّل الإنسان، وتنقص من وعيه بذاته الإنسانية، ومن حقوقه وكيانه.
ــ يسجل الجميع تراجع معدل القراءة في الوطن العربي، مما انعكس سلبا على مستويات عدة. فكيف السبيل لرد الاعتبار للكتاب، ومن ثم التشجيع على القراءة؟
ـ أولا، ينبغي أن يقتنع ساستنا بقيمة المعرفة، ودورها في تشكيل الإنسان والدولة. وثانيا، أن نصلح مؤسساتنا التعليمية، ونفرض التعليم على كل طفل. وثالثا، أن نعود أطفالنا على القراءة، منذ مرحلة الروض، أي نخصص لهم حصصا للمطالعة، وأنشطة موازية لها، يستثمرون فيها ما قرأوه، كي يدمنوا على القراءة، التي تربيهم على الرؤية السليمة، والملاحظة الدقيقة، والسؤال الوجيه.
ــ في نظرك، هل هناك مواصفات مطلوبة في الأديب والمبدع الحقيقيين؟ ثم، هل من الممكن أن تصنع الأسفار والرحلات مبدعا؟
ـ لابد من المعاناة، وبدونها لا نستطيع أن نبدع، فهي الأساس في الإبداع. ونعني بالمعاناة، أن يدمج الكاتب نفسه في مجتمعه، فيعيش مخاضه، ويوجه كل مداركه النفسية والفكرية والحسية، لتلتقط ما يجري وما يطرأ، كي يشكل من كل ذلك مادة خصبة للكتابة. ويمكن للمبدع أن يستثمر طفولته وشبابه، فيعود إليهما، ليستحضر أقوى اللحظات التي عاشها. كما يمكنه أن يستقي من أسفاره ورحلاته ما يغني كتاباته، فالسفر يُجَسِّد له الفرق بين مجتمعه والمجتمعات الأخرى، سلبا وإيجابا. وتبقى العملية الإبداعية معقدة، يصعب تفكيك خيوطها، لأنها مرتبطة بعدة عوامل ذاتية.
ــ لك كتاب بعنوان (أن تسافر)، فإلى أي حد يكون السفر مهما وضروريا للإنسان عامة والأديب خاصة؟
ـ السفر ليس لحظات ممتعة فقط، أو ترويحا وترفيها عن النفس، بل هو تغيير للرؤية، ودهشة للرحالة، تدفعه إلى تغيير مواقفه، وإثراء أفكاره، وأكثر تفهما لأوضاع الناس، هنا وهناك. والسفر بالنسبة إلي، أطلعني على أوضاع الآخرين، وجعلني أوازن بين أوضاعهم وأوضاعنا، وأطلعني على حقائق جغرافية وتاريخية. ولا ننسى أنه حافز للكتابة، وللسفر عبرها نحو عالم المجتمعات التي عاشها الرحالة.
ــ أصدرت عشرات الكتب في أدب الطفل، هلا اطلعتنا على أبرزها وما حملته في ثناياها؟
ـ في البداية، اعتمدت في تأليف كتبي على تلقين الأخلاق والسلوك التربوي للأطفال. لكن، مع تقدم السن والعصر، انتقلت كتاباتي إلى القضايا النفسية التي يواجهها الطفل، كالخوف والرهاب والانعزال والانكماش والشعور بالنقص وتأثير الموت…ثم إلى القضايا العلمية، فالخيال العلمي، فالمنجزات التكنولوجية الحديثة، دون أن أن أغفل قضايا البيئة والصراع بين الدول، وكيف تفادي الحروب…كل ذلك، كان مغلفا بالرموز والخيال والصور التي يستطيع عقل الطقل إدراكها.
ــ تصرون في كتابتكم للطفل على تربية النشء على القيم الدينية والوطنية والإنسانية. فأي دور تلعبه القيم في الحياة العامة، علما أن هناك من يقول بتجاوزها ولا يقر بها؟
ـ القيم الدينية والوطنية والاجتماعية والإنسانية ضرورية للطفل، وللإنسان عموما، لأن بدونها سيتحول المجتمع إلى عالم الإجرام والقتل والاستغلال والنهب، وستنتفي كل المظاهر الجميلة التي تميز الإنسان عن الحيوان. وإذا تأملنا ما يصلنا من أشرطة وكتب أوروبية وأمريكية، سنلحظ أن أغلبها يسعى إلى تجذير هذه القيم، سواء في أشرطة الحرب، أو الجرائم المنظمة، أو العلاقات الأسرية والعائلية…ولولا هذه القيم، لأصبح الساسة الذين يحكموننا أكثر إجراما وعدوانا. فهذه القيم، هي التي تردعهم، وتحجمهم عن التمادي في ممارستها. وأدب الطفل يقوم على قاعدة أساسية : لابد أن يتغلب الخير على الشر. أما أدب الكبار، فيمكن أن يتغلب فيه الشر، لأن قارئه يستطيع أن يتحمل ذلك، ويعرف كيف تسير الأمور في العالم !
ــ ((تيار الوعي في الأدب المغربي المعاصر)) ربما كان أول مولود أدبي للأستاذ بنجلون، فماذا يمثل أول كتاب في مسيرة الكاتب عموما ؟
ـ أجل، هو أول كتاب لي، ولقد أتى في ظروف خاصة، إذ كان أحد أصدقائي السوريين سيعود من المغرب إلى سورية، بعد أن قضى سنوات في العمل، فجمعت كل ما كتبته من قراءات، نشرتها في الصفحة الثقافية لجريدة ((البيان)) وطلبت منه عرضَها على اتحاد الكتاب العرب، ففعل، ونُشر الكتاب، رغم أن الكثيرين لم يوافقوني على عنونته بـ ((تيار الوعي في الأدب المغربي المعاصر)) إذ كانوا يظنون أنني أقصد الحوار الداخلي الذي تكتنفه المشاعر المتداخلة…وأنا في تلك المرحلة من الشباب، لا علم لي بهذا المصطلح ولا بمعناه ومضمون. واستعمالي له، جاء عرَضا، أعني به مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي في النصوص المقروءة. وكان الكتاب بمثابة حافز لي كي أستمر في القراءات، وفي السير على هذا النهج، والمثابرة في النشر، واقتحام مجال الكتابة من كل الأبواب.
ــ لديك أعمال في التربية غير النظامية، تم اعتمادها في البلدان الأوروبية وفي المنظمات العالمية. فمن أين استلهمتم فكرة إنتاج هذه الأعمال؟
ـ هذه الكتب تتماشى مع الجمعيات التي تعمل على إعادة تربية وتعليم الشباب الذين لم يدخلوا المدرسة قط، أو الذين انقطعوا عن الدراسة. فهي تحدد موضوعا معينا لهم، مثل : مدونة الأسرة، الانتخابات، التحرش الجنسي، الوساطة…وتناقشه معهم بحضوري، ثم أقوم بكتابة قصة، تباشر كل ماراج في تلك المناقشات، وفي النهاية، تطبع القصة في كتاب ليقرأوها، ولتكون أساس لقاءاتهم الأسبوعية. ولا تتم كل هذه العمليات، إلا بدعم من دول أوروبية، ككندا والدانمارك وإنجلترا، حيث يصل عدد النسخ من القصة الواحدة مائة ألف، وأحيانا أكثر، وتوزع جميعها مجانا على المدن والقرى. هذا دون أية شروط من الداعمين، فنحن أحرار في أفكارنا المطروحة، وفي لغتنا، ورسومنا!
ــ ماذا عن عضويتكم في اتحاد الصحافيين العرب بهولندا؟
ـ لم يعد هذا الاتحاد قائما، لأن هناك مشاكل تنظيمية وتمويلية حالت دون استمراره، كما أنه كان مجرد تكتل، يجمع الصحافيين العرب المتواجدين بهولندا ويوحد كلمتهم. وبما أنني كنت أتردد باستمرار على هولندا، وأكتب في جريدة الاتحاد ((الجسر)) فقد انتميت إليهم، وحاضرت مرارا في مقرهم بالعاصمة أمستردام !
ــ تعتبرون عضوا مؤسسا لاتحاد ممثلي الصحافة الوطنية، ماهي الأهداف التي سطرها هذا الاتحاد؟ وما هي قراءتكم لواقع الصحافة الوطنية في الوقت الراهن؟
ـ أجل، كنت عضوا مؤسسا للاتحاد، لكن ما أن انطلق، كسائر الاتحادات والجمعيات، حتى انحرف عن مساره، ولم يعد يؤدي مهمته في دعم وتشجيع الأقلام الناشئة، وتخلى عن كل الرؤى التي رسمها في أفق نشاطه الصحافي. أما الواقع الحالي، فإنه يدعو إلى الرثاء، لأنَّ التبعية والانتفاعية والانتهازية، سيطرت واستحوذت على الكثير من الأقلام، فأصبحت تخدم مصالحها الضيقة، ونفضت أيديها من خدمة المصالح العامة، ما جعلني أنزوي، وأكتفي بالكتابة.
ــ كلمة الأستاذ والأديب العربي بنجلون في ختام هذا الحوار المفيد والممتع؟
ـ ترتبط الكتابة بالعقل المتزن، والسلوك الإنساني الرفيع، فلا ينبغي للقلم الناشئ أن يحيد عن هذا الارتباط النبيل. وإذا لم يستطع، فعليه أن يلتزم الحياد، كأضعف الإيمان. أما أن يصبح بوقا لجهة انتهازية، ويدير ظهره لآمال وطموحات الإنسان الكادح، فتلك قمة الخساسة والنذالة. وما على الكاتب إلا أن يعيش بقلم نقي، على أن يعيش ذليلا…!
One Comment
محمد بدارنة - مجلة الحياة للاطفال - حيفا
العربي بنجلون عربي اللسان والحلم وقلبه يتسع للانسانية وتراه يعبر يترجل في العالم العربي وسرّ سعادته أن يرتحق كلّ جميل منها ومن اجمل قيمه صناعة الكلمة الطّيبة وقد سرت القيم في دمائه وبالوراثة، وبعد أن قرأت الحوار لفت نظري موضوع المعانة كأساس لولادة الابداع، ونظرة سريعة نجد موسى وعيسى ومحمد قد عانوا ما لم يعنه احد فكانوا عنوانا الهيا للرسالة، وكبار الفنانين قد وصولا قمة الابداع ما بعد معاناة قاسية، لا شك في ذلك، لكنني اعتقد ان الابداع قد يأتي أيضا من رحم الفرح، وسلاما للرائع العربي بنجلون وجه المغري الحضاري وسفيرها الجميل