تميزت البرامج التلفزية في رمضان السنوات الماضية بطابعها الروحي الذي يصب في اتجاه خدمة الدين الإسلامي الحنيف، فكانت برامج الإذاعة والتلفزة لا تخلو من أدعية وتلاوات قرآنية ومن فتاوى في الصيام، بالإضافة إلى مواضيع دينية متنوعة تفتح بصيرة المؤمن وتساعده في اتباع العقيدة الصحيحة، كما كانت المسلسلات الدينية تفرض وجودها في الساحة، فكانت الشخصيات الإسلامية حاضرة ببطولاتها وتاريخها ومجدها، كما كانت الفكاهة التي تتترك انطباعات مسلية في نفوس الناس حاضرة، في محاولة من المسؤولين بالقطاع لخلق نوع من التوازن بين ما هو جدي يعود بالنفع، وهزلي ساخر يدخل السرور والبهجة إلى قلوب العموم.
لم يستقر الحال على ما كان عليه، وتبدلت ألوان خريطة البرامج الرمضانية، حيث أفرغت من محتواها الروحاني وانحدر مستواها إلى الأسفل، وكأن الناس لم يعودوا في حاجة إلى التوعية في أمور الدين، أو كأنهم اكتفوا وماعادوا في حاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية والصلاح، أو تذكيرهم بالقيم النبيلة وبدور الأخلاق الحميدة في صنع إنسان سوي، يتنزه بنفسه عن الوقوع في الزلات والمعاصي والأخطاء الدنيوية.
رحل ذاك الزمن الذي كانت تجتمع فيه الأسر والعائلات على مائدة الإفطار وهي في لهفة وشوق كبير لمتابعة ما يقدم لها من برامج، انفض الجميع وتفرق بسبب رداءة المنتوج الرمضاني المعروض، بعدما كان في السابق يشد أنظارهم ويلهيهم أحيانا حتى عن العبادة، وبسبب الميوعة الطاغية وتكرار نفس الوجوه الدرامية والكوميدية دون أي جديد يذكر، غير الاجتهاد في تقليد بعض العاهات والحركات السخيفة ظنا أنها تضحك الناس وتسليهم، بينما هي في الواقع لا تزيد المشاهد إلا احتقارا واستهجانا للعمل الذي أنفق عليه الكثير وما هو بعمل يرضي الذوق العام في النهاية، أو يقدم رسالة معينة حتى، اللهم بث روح السخرية والاستياء والاستنكار في صفوف المتابعين، والذين لا يتوانون في التعبير عن انتقاداتهم اللاذعة التي تكونت لديهم من منطلق قناعة رافضة للإنتاجات الهزيلة والعديمة الجودة.
لقد هرع الناس في ظل انتشار الإعلام البديل وصحافة المواطن، إلى إنتاج بدائل تسد حاجاتهم وحاجات غيرهم في الفرجة والاستفادة والاستمتاع، وذلك عبر تقديم أعمال فكاهية من إبداعهم، وأخرى حوارية من انتقائهم، وأخرى دينية تعنى بالقرآن الكريم والسنة النبوية، معتمدين على إمكانيات بسيطة وآليات متواضعة غايتها محاولة سد الفراغ القاتل الذي خلفه المنتوج الرمضاني الرديء والوضيع، وكذا خلق تنوع في الأعمال في حنين إلى ماضي البرامج المتوهج .
إن هجران الناس للبرامج التلفزية وسعيهم نحو العمل على انتاج أخرى من صنع أنفسهم، استطاع إلى حد ما أن ينجح في انتشال الكثيرين من بؤرة الضجر، ومن دوامة الروتين المدمر الذي يحتاج إلى أوكسيجين جديد كل حين، كي ينعم الناس بحياة صحية قوامها تغذية الفكر والروح أولا، وليس تأجيج نار الشهوات والهبوط بالذات الإنسانية إلى المستنقعات الآسنة لأهداف ربحية تجارية صرفة.
يتحقق مع الجودة في العمل الانجذاب، ومع الرداءة لا يتحقق مكسب غير النفور والفرار لوجهات أخرى أفيد.