هناك تصنيفٌ للناس سائدٌ بين شرائح كثيرة تُسْلك بمقتضاه فئات المجتمع في نوعين اثنين : نوع أول يتمثل في “الشخصيات المهمة” التي لها إشعاع في وسطها وبيئتها، تؤثر في محيطها مثلما تتأثر به، ومن هؤلاء الكاتب والصحافي والبرلماني والسفير والوزير على سبيل التمثيل لا الحصر.
ونوع ثان يصطلح عليه بعامة الناس، أو البسطاء الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وليسوا من ذوي الإشعاع والنفوذ والالتماع، ولا يكونون مركز أحاديث الناس إلا بعد وقوع فضيحة مدوية تنتشر بسببها أسماؤهم وتتصدر لغو الشوارع والمقاهي وقاعات الاستراحة في الحمامات العمومية!!
بعض الناس لا يتصورون أبدا إمكان الكتابة عن أمثال هؤلاء البسطاء، اللهم إلا الإخبار عن موتهم في صفحة الوفيات، أو عن جرائمهم في الصحف التجارية الصفراء. وكلما كان الحديث عن دراسة، أو كتاب عن شخص، تصورت بعض “العقليات” أن الشخص محور الدراسة أو التأليف هو واحد من هذه الأسماء المعروفة في ميادين الفكر، أو الأدب، أو السياسة، أو الرياضة أو الغناء.. ولم تتصور قط أن يكون اسم شخص من هؤلاء البنائين، أو الحدادين، أو السائقين ونحوهم من الكادحين في الحياة باحثين عن لقمة عيش بشرف وعرق جبين.
ولا أنسى في هذا الصدد أنني كنت أخبرت أحد الأصدقاء عن تأليفي كتابا عن والدي ـ رحمه الله تعالى ـ وكان هذا الصديق من الحاصلين على مؤهل علمي عال، فبادرني متسائلا باندهاش :
ـ وماذا كان والدك !؟
فأجبته ببرودة أعصاب :
ـ كان بَحَّارا، وكان شخصا عاديا وبسيطا
فحوّل الصديق الجامعي الكلام نحو وجهة أخرى، كأن كتابا عن شخص بسيط غير مشهور لا يستحق أن يكون موضوع نقاش وحوار أدبي أو فكري!!
ولا أريد أن أتورط في المفاضلة بين الكتابة عن البسطاء المغمورين والكتابة عن الأعلام المشاهير، ولكنني أود التأكيد على أن من هؤلاء البسطاء من يتسم بصفاء الطوية، وصدق الخطاب، وبالوفاء والأمانة، وإخلاص النصيحة، وشرف التضحية، وغير ذلك من الصفات التي نفتقدها في كثير من الذين تتصدر أسماؤهم وصورهم واجهات الجرائد والمجلات وبرامج الإذاعات والتلفاز، ثم تُظهر الأيام والأعوام أن بعضهم كان من كبار اللصوص والمخادعين والحاقدين والمدلسين… وكم من “شخص مهم” بدا للعالم بعد مدة أنه لا يستحق ما قيل فيه من مدائح وما أُلِّف عنه من دراسات أو مصنفات.
قال عابر سبيل : ليست العبرة بالمكانة الاجتماعية لمن تكتب عنه، إنما العبرة بما يحمله هذا الشخص من قيم إنسانية سامية ونبيلة، فبالقيم والأخلاق يكون الإنسان إنسانا وليس بالمناصب والألقاب!
نشرت هذه المقالة على صفحات العدد 419 من “المجلة العربية” الصادر في شهر نوفمبر 2011م.