الصديق إدريس الصغير، رفيق الدرب الأدبي خلال عمر طويل، منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي. فمن المصادفات التي تحضرني بهذه المناسبة، أننا بدأنا معا نشر قصصنا سنة 1966، ونحن ما نزال نتابع دراستنا الجامعية في كلية واحدة بظهر المهراز في فاس دون سابق معرفة.
وقد تم التعارف بيننا في القنيطرة بعد تخرجنا. نشرنا على حساب كل منا في وقت واحد، مجموعتينا القصصيتين سنة 1976، حيث أصدرت مجموعتي (أنياب طويلة في وجه المدينة)، بينما نشر هو مجموعة (اللعنة والكلمات الزرقاء) مشتركة مع الراحل عبد الرحيم مودن، مع ما عانيناه من متاعب خلال تعاوننا على توزيعهما، وكنا أيضا نوالي حينئذ في دأب ومثابرة نشر نصوصنا السردية في مختلف المنابر الوطنية والعربية. كما أننا التحقنا في وقت واحد باتحاد كتاب المغرب، وحضرنا معا والمرحوم عبد الرحيم مودن، لأول مرة مؤتمره الخامس سنة 1976، وأسسنا مطلع الثمانينيات، رفقة محمد بنطلحة والمرحومين عبد الرحيم مودن ومبارك الدريبي، فرع اتحاد كتاب المغرب بالقنيطرة، ثم انطلقنا ننشط ثقافيا بالمدينة، وأنجزنا كثيرا من التظاهرات الثقافية المهمة طيلة عقد الثمانينيات، وأيضا شاركنا في عدد من التظاهرات الأدبية والقراءات القصصية، أهمها الأيام الثقافية السنوية لجمعية الإمام الأصيلي بمدينة أصيلة، أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكذا الأسبوعان الثقافيان المنظمان من لدن اتحاد كتاب المغرب، في كل من ليبيا والعراق سنة 1986.
ومن اتفاق المصادفات أيضا، أن كلا منا قد أصدر خمس مجموعات قصصية خلال أربعة عقود، بعيدا عن أي إسهال أو إنتاج تحت الطلب، أو بحافز الجري وراء أي نجومية موهومة، أو بدافع مبيت بعيد عن حوافز الإبداع الذاتية الصادقة.
أما الصورة الناصعة التي سجلتها السنون في ذهني عن شخصية الصديق إدريس الصغير الإنسان، نتيجة التواصل اليومي خلال عقود من الزمن، فتتصدرها شِيَات لامعة ونادرة في واقعنا بمرحلتنا هذه، متميزة بكون اللون الأبرز الذي يجللها يتكون من خصلة محمودة، أعني فضيلة الصدق مع الذات. فالصغير كان دوما يسمي الأشياء بأسمائها، نظرا لتميزه في علائقه بالحياة وبالآخرين بصراحة وصدق مخلصين، بغض النظر عن أي حيثية من أي نوع كانت.
ومن هنا كان دوما لا يتأخر عن الإدلاء برأيه المتحمس، إذا ما رأى اعوجاجا في شخص أو مجموعة أو جمعية وما أشبه، تارة بالمناقشة الشخصية المباشرة، وتارة بالنشر الانتقادي في المنابر الصحفية المختلفة، الأمر الذي ما كان يروق بالطبع لكثير من الطفيليين والانتهازيين والمتملقين.
ومما أحتفظ به في ذاكرتي كذلك عن الصديق إدريس الصغير في هذا السياق، أن علاقته الوطيدة بمدينته القنيطرة، التي ولد ونشأ بها ودرس واشتغل، قد تشكلت من حب يومي متمكن، نما مع كل مراحل حياته، وجعله يتمتع بصفة الحاضر الغائب فيها، رغم اضطراره للعمل خارجها في بعض فترات عمله الماضية. علما بأن حب الإنسان لوطنه، ينطلق أولا من حبه لمدينته أو قريته. ومن ثم يمكن القول بأنه إذا كان هناك من يغار على مدينته هذه بإخلاص وصدق بل وانفعال، فلن يوجد من يسبق إدريس الصغير إلى المقدمة.
ونحن نعرف أنه قد انخرط خلال حياته في كثير من الجمعيات الثقافية في القنيطرة، كما شارك في كثير من التظاهرات الأدبية، التي تشرّف المدينة وتعلي من شأنها الثقافي ومشهدها الحضاري، من غير أن ننسى كونه أيضا قد رأس فرع اتحاد كتاب المغرب بها من أجل تنشيط الفعل الثقافي في المدينة على أحسن ما يرام. ولعل أسوأ ما كان يثير المواطن إدريس الصغير من إحداثيات سلبية تجاه مدينته، أن يشاهد كأمثاله من الغيورين عليها، ما آلت إليه من طمس لمظاهر الجمال فيها، بفعل غابة الإسمنت الكاسحة، التي محت معظم معالمها الحضارية وساحاتها الخضراء الفواحة وطابعها المعماري المميز.
وإذا قادتنا هذه الشهادة السريعة إلى الشخصية الأدبية للقصاص والكاتب إدريس الصغير، فسنجده مبدعا موهوبا، قد تعددت عطاءاته بين القصة القصيرة والرواية والمسرحية، فضلا عن المقالات النقدية. ومع ذلك، فيمكن الذهاب إلى القول بكون الكاتب إدريس الصغير هو أكثر إخلاصا للقصة القصيرة.
ويتجلى هذا في غيرته عليها من الأقلام الطفيلية، وفي ممارسة معالجتها الناضجة طيلة عمره الأدبي، متعهدا إياها بالتجريب والوعي النظري لتقنياتها المعاصرة، حتى وإن انشغل إبداعيا بغيرها، فإنه سرعان ما يعود إلى إبداعها، إضافة إلى أن بلاغة التكثيف المركز المميزة لتقنية القصة القصيرة، والمهيمنة على مجموعاته القصصية (اللعنة والكلمات الزرقاء، عن الأطفال والوطن، وجوه مفزعة في شارع مرعب، معالي الوزير، حوار جيلين)، قد احتفظت باشتغالها أيضا في حبك نسيج مختلف إنتاجه الروائي. وربما كان هذا هو السر الذي يقف وراء نوعية رواياته، التي يمكن تصنيفها ضمن الرواية القصيرة، التي أعتقد شخصيا أنها تعد أكثر الأنواع الروائية ملاءمة للمقروئية وللتعبير عن واقع العصر، المتسم بضيق الوقت والسرعة المذهلة.
ولعل مما يحسب للمبدع الأصيل إدريس الصغير في سياق علاقته الصحية بأجيال القصة القصيرة، كونه من القلائل من كتابنا الذين يتجاوزون قضية أجيال الأدب المفتعلة، ومن هنا وجدناه قد أصدر مجموعة قصصية مشتركة مع مجايله وصديقه المرحوم عبد الرحيم مودن سنة 1976، هي مجموعة (اللعنة والكلمات الزرقاء) كما سبقت الإشارة، في حين أصدر سنة 2011 مجموعة (حوار جيلين) مشتركة مع كاتب شاب هو محمد سعيد الريحاني، دون أن نغفل دلالة عنوان هذه المجموعة القصصية على هذا التلاحم المحمود بين أجيال الأدب. مع العلم أن إدريس الصغير سبق أن جرب كتابة رواية واحدة مشتركة مع عبد الحميد الغرباوي، أقصد رواية (ميناء الحظ الأخير)، الصادرة عن دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1995.
وبالتأكيد يمكن الافتراض بكل ثقة، بأن ما يقف وراء هذا التجاوب مع الأجيال الأدبية من لدن الكاتب والمبدع إدريس الصغير، لن يكون سوى اعتقاده بكون الإبداع قد يكون جيدا أو رديئا في كل الأجيال، وأن التواصل بين الأجيال وتكامل جهودها الإبداعية، لمما يخصِّب ويثري الحقل الأدبي أكثر. فبقدر ما يكون تجاوز الحدود الجيلية بصورة جدية وبوعي متطلع نحو تطوير ساحتنا الثقافية، بقدر ما تكون النتائج في منتهى الإيجابية، تماما مثلما يحصل حين تغيب الذاتية والأنانية، ويحضر بدلهما العمل الجماعي الصادق المشترك.
إن ما اجترحه الكاتب إدريس الصغير، خلال عمر أدبي طويل، من نشاط وتنشيط للفعل الثقافي المشرّف، مدعمين بكم محترم من الإصدارات الإبداعية المميزة في القصة القصيرة والرواية والمسرح، وما قام به من مد للجسور الثقافية بين المغرب والقنيطرة بالذات، وبعض أقطار العالم العربي، يتقدمها العراق ومصر، قصد التعريف بالحركة الثقافية في المغرب، يجعل هذا التكريم أكثر من لائق، فالرجل يستحق كل احتفاء وتنويه وتقدير.
*شهادة ألقيت في حفل تكريم الصديق العزيز المبدع إدريس الصغير، بمؤسسة مشيش العلمي في القنيطرة، مساء يوم الخميس 26 أبريل 2018.