عرفت الساحة الثقافية هذه الأيام احتداد النقاش حول جائزة المغرب للكتاب، وخاصة بالنسبة لجائزة الشعر. ويسرنا أن نعيد بالمناسبة، نشر كلمة حول الجوائز الأدبية، سبق طرحها بركننا الثابت (محطة) في مجلة “مجرة” ع. 22/23 الخاص بملف الزجل:
يخطئ من يظن من الأدباء وخاصة الناشئين منهم، أن الهرولة وراء الجوائز ولاسيما اللهاث تجاه أقطار البترودولار، هي مقياس لاكتمال تجربته الأدبية، بله الفوز المادي السهل. فالجميع بات اليوم يعلم بالظروف التي تمنح فيها تلك الجوائز. نقول هذا من غير أن ننكر على أحد حقه في أن يترشح أو يرشح لهذه الجائزة أو تلك. لكن شرط أن يكون هو أولا وأخيرا مقتنعا مع ذاته، بأحقيته فيها. وسأذهب بعيدا وبشكل مثالي، فأقول: حتى وإن كانت جائزة نوبل. بل وسأكون جد طوباوي فأؤكد: حتى وإن كانت الجهة المانحة تحترم نفسها، وجادة في تنظيم جائزتها بشكل موضوعي، لا يقف وراءه أي هدف آخر من أي نوع كان، غير هدف مجازاة الكفاءات وتشجيع الموهوبين.
على أن يلقي المرشح للجائزة جملة من الأسئلة على نفسه، من مثل:
ما هي الجهة التي تمنح الجائزة ؟ رسمية أم مستقلة ؟ وما هي توجهاتها ومصلحتها ؟ وكذا أهدافها ؟.
وممن تتكون لجن التحكيم فيها؟ من الأدباء المختصين الأكفاء ممن اشتهروا بالموضوعية والنزاهة والغيرة على الأدب الرفيع، أم من الإداريين الأميين أدبيا، أم من ذوي الاختصاص في لوي عنق القوارير حتى وإن لم تكن من البلاستيك، وذوي الخبرة في قلب السلبيات إيجابيات والإيجابيت سلبيات بعصا سحرية لا تخطئ، عملا بمبدإ انصر أخاك ظالما أو مظلوما؟.
ثم، هل ما يرشحه من أعماله للجائزة، يعتبر في حد ذاته قيمة مضافة للتراث الإنساني محليا وقوميا وإنسانيا؟
ففي هذا السياق، يذكر الكثيرون من مجايلي، فضيحة مجلة (حوار) اللبنانية أواسط ستينيات القرن الماضي، تحت إدارة الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، الذي دفع ثمن جهله بالحقيقة حياته انتحارا أو سكتة قلبية مفاجئة. كانت (حوار) مجلة حداثية رائدة، تنشر بها معظم أقلام الطليعة الأدبية والفكرية في العالم العربي آنذاك، أذكر منهم جبرا إبراهيم جبرا وبدر شاكر السياب وغالي شكري وصلاح عبد الصبور ويوسف إدريس وخيري شلبي وإبراهيم أصلان وصبري حافظ وعبد العال الحمامصي وسهير القلماوي ومحيي الدين محمد ومحمد إبراهيم أبو سنة ومحمد عفيفي مطر وزكريا إبراهيم ولويس عوض وغادة السمان وزكريا تامر ووليد إخلاصي وياسين رفاعية وجورج سالم وهاني الراهب ومحمد الماغوط وصادق جلال العظم وفؤاد التكرلي وسركون بولص وطراد الكبيسي ونجيب سرور وعبد الواحد لؤلؤة وسعيد عقل وليلى بعلبكي وأنسي الحاج والطيب صالح. بل إن هذا الأخير قد نشر روايته الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال) لأول مرة بالعدد المزدوج 24/25 سبتمبر ـ ديسمبر 1966 من هذه المجلة المشبوهة؛ بعد أن سبق له نشر الفصلين الأولين من روايته القصيرة (عرس الزين) بها أيضا، وبالضبط في العدد العاشر، س. 2، مايو ـ يونيو 1964.
وتبين بعد تمتع هذه المجلة بمكانة اعتبارية رفيعة أدبيا في العالم العربي، بجانب مجلات الآداب وشعر والفكر العربي المعاصر والطليعة والكاتب والمجلة والأقلام والمعرفة وأمثالها؛ أن من كان يقف وراءها هي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وذلك من خلال الدعم المالي المقدم لـ “حوار” بل ولـمجلة “شعر” أيضا، من طرف (المؤسسة العالمية للحرية الثقافية).
فما كان على يوسف إدريس سوى رفض قبول الجائزة التي منحته إياها (حوار) سنة 1966، حيث انكشفت حقيقتها الاستعمارية. كما أسقط في يد غالي شكري بهول الصدمة، فكتب إلى صديقه مدير المجلة متألما: ((يا لضيعة العمر. فبعد كل الشقاء والعذاب والحرمان وأسوار المعتقلات أراني في لحظة واحدة أنني أكلت خبزي، وأكل أولادي معي، من الكتابة في مجلة يموّلها الاستعمار)).
لكم يؤسفني أن أرى شبابا من ناشئة الأدب، يتسارعون نحو كل الجهات المانحة للجوائز، ظانين أن ذلك سيعلي من شأنهم أدبيا. بينما العكس هو الصحيح، خصوصا عندما تكون كتاباتهم ما تزال تتعثر في أخطاء البدايات، أو أنهم كتبوا أثرا واحدا لا يغني ولا يسمن من جوع، ثم يسكتون بعد أن حصلوا على فتات جائزة ما سرعان ما تتبخر رائحته البترولية المشبوهة، ويضيع الحماس الأدبي والذكر الطيب الموعود. وبالمقابل، كم أرثي لبعض الأسماء الوازنة الكبيرة التي رسخت رصيدها الأدبي والفكري عبر سنوات من الجهد والعطاء، ثم نجدها تتزاحم على أبواب الجوائز الموبوءة أو المفلسة. فتخسر معنويا أكثر مما تربح ماديا.
وهنا تحضرني مجموعة من الأسماء التي احترمت نفسها، متشبثة بمبادئها الاستثنائية، أستأنس ببعضها هنا.
حصل جورج برناردشو على جائزة نوبل سنة 1925، فرفضها بمبرر كونه يكتب لمن يقرأ وليس لنيل جائزة، وأن هذه الجائزة مثل طوق النجاة الذي يلقى لغريق بعد أن وصل إلى شاطئ الآمان.
ورفض جان بول سارتر تسلّم هذه الجائزة العالمية عند الحصول عليها سنة 1964، بسبب موقفه المبدئي من الجوائز الرسمية التشييئية.
ورفض جوليان غراك سنة 1951 جائزة كونكور عن روايته (على ضفاف خليج السيرت)، كما رفض خوان غويتسولو جائزة القذافي العالمية للأدب سنة 2009 لأسباب سياسية وأخلاقية، أما صنع الله إبراهيم فقد رفض جائزة جمعية الروائيين العرب سنة 2003 لأنها آتية من حكومة لا مصداقية لها.
وكان صاحب ” النظر في الوجه العزيز” الصديق أحمد بوزفور، الذي ود لو يفرح بجائزة تعطيه إياها حكومة بلده في ظروف مختلفة، منسجما مع نفسه حين رفض جائزة الكتاب لوزارة الثقافة المغربية، التي فازت بها مجموعته القصصية (ققنس) سنة 2002. معللا ذلك في بيان الرفض المنشور في الصحافة بأسباب من بينها: الخجل من تلقي جائزة عن كتاب طبع منه ألف نسخة لم توزع منها بالكاد سوى 500 نسخة، على شعب يبلغ تعداده يومئذ ثلاثين مليون نسمة.
فهنيئا للمرشحين للجوائز المادية والفخرية، سواء نالوها أم لم ينالوها، حتى وإن لم تضف قيمة تذكر لرصيدهم الإبداعي أو الفكري إن كان لهم رصيد. ومرحبا بالأدباء الأصلاء من ذوي القامات المحترمة والقيم النبيلة، الذين لا يبنون مجدا وهميا بالجوائز، ويميز وعيهم بين ” الغابر والظاهر”. فالخسران بيّن والربح بيّن، ولكل خياره حسب هواه.