أسامة الزكاري واحد من أبناء مدينة أصيلة، بها نشأ وترعرع وشب، وهو يعتبر من أنشط وأشهر الباحثين المغاربة في التاريخ المعاصر، نشر مئات المقالات العلمية في العديد من الصحف المغربية والعربية، قال عنه الدكتور عبد اللطيف شهبون :” هو في حد ذاته مؤسسة ثقافية وباحث عميق النظرة، أبعاده الثقافية متشعبة، فضلا عن ذلك فهو رجل خلوق “( مقتطف من شريط تكريم الأستاذ الباحث أسامة الزكاري).
مع أسامة الزكاري كان لنا الحوار التالي :
أسئلة كتابة التاريخ: تحولات واهتمامات
سعداء بحضوركم بيننا أستاذ أسامة الزكاري في هذا اللقاء، شكرا جزيلا على تلبيتكم دعوة المدونة. وإذ نحيي فيكم قيم النبل والتواصل الثقافي المثمر، والعناية بالتاريخ ورجالاته وبالمبدعين وإصداراتهم، يسرنا أن ننتهز الفرصة للتعرف على وجهة نظركم في عدد من القضايا الراهنة التي تشغل بالنا جميعا.
ـــ الأستاذ أسامة الزكاري هو ابن مدينة أصيلا، أجبرته ظروف العمل على الاستقرار بالدار البيضاء . فكيف تعايشتم مع واقع متناقض يجمع بين هدوء مدينة صغيرة وصخب أكبر مدينة مغربية؟
شكرا الأستاذة أسماء على هذه الاستضافة الكريمة، وشكرا –كذلك- على حيويتك الكبيرة في التقاط تفاصيل الزمن الثقافي المغربي الراهن، محليا وجهويا ووطنيا. أما بالنسبة لسؤالك، أود الإشارة إلى أن الأمر كان في البداية صادما ومكتنفا بالكثير من عناصر القلق المبالغ فيه والخوف المجاني والريبة غير المبررة، جراء الصورة النمطية التي دأبنا على رسمها في أذهاننا اتجاه مدينة الدار البيضاء، هذه المدينة الكوسموبوليتية بأذرعها الأخطبوطية الضاغطة على الساكنة، حيث تنعدم السكينة والإحساس بالأمان وتتخشب العلاقات الإنسانية، في مقابل حضور نمط تعايشي عنيف تكاد تتوارى داخل متاهاته أجواء الألفة والحميميات المتوارثة عن مدننا الصغيرة، الهادئة، المطمئنة لسكينة الروح والمقام. والحقيقة، إن هذه التمثلات لم تكن تحمل –أبدا- عناصر الدقة في تشخيص حالة التنافر في تدبير شؤون المجال الجغرافي المشترك لمدينة صغيرة اسمها أصيلا، مقابل هيمنة مظاهر الفوضى والتساكن العنيف داخل “مدينة غول” مثل الدار البيضاء.
دليل ذلك، نجاحي -بسرعة- في تبديد جل مظاهر القلق والتخوف السابقة، وهي المظاهر التي اتضح –على الأقل بالنسبة لشخصي المتواضع- أنها لم تكن تقوم على وعي دقيق بمستلزمات تنظيم العيش المشترك داخل فضاء جماعي قد يختلف من جهة لأخرى ومن منطقة لأخرى، حاملا لخصوصيات محلية لا شك وأن الفرد “النازح” قادر على التكيف معها وعلى استيعاب محددات التساكن داخل ميكانزمات انتظام الحياة الجماعية بفضاءاتها المشتركة.
لقد سكنتني مدينة أصيلا منذ صباي، ولم أستطع التخلص من لوثة عشقها ومن لقاح غرامها، لذلك فأنا أحملها معي حيثما حللت أو ارتحلت، أعيش داخل أزقة أصيلا وشواهدها المادية وتراثها الرمزي وأنا بعيد عنها بمسافات واسعة، أعيش داخل مدينة أصيلا وأنا خارج مرتع الميلاد والصبا والنشأة، وأتمثل مضامين هذا المرتع في كل تفاصيل حياتي. وأكاد أجزم أن استلهامي للقيم الثقافية والرمزية للمدينة يتجاوز محددات الزمن والمكان، مما يوفر لي رحابة استثنائية قصد التحليق عاليا في سياق البحث المتواصل عن أشكال تحيين التراث المادي والرمزي للمدينة ولأعلامها ولعناصر توهجها ولمظاهر سحرها، الأمر الذي أثمر سلسلة من الأعمال التي كان لي شرف إنجازها بهذا الخصوص.
باختصار، أقول إن المدينة تسكن قاطنها أكثر مما يسكنها هذا القاطن، بل إن بعدنا الجسدي المادي عنها يوفر إمكانيات هائلة للالتفات للتفاصيل وللجزئيات الاعتيادية، قصد الكتابة عنها والتأمل في مضامينها وتشريح قيمها العميقة التي قد لا يلتفت لها القاطن المباشر، بحكم طابعها الاعتيادي اليومي المرتبط بنظيمة سلوك الناس ونسق انسياب حياتهم الروتينية. لا يتعلق الأمر بأعمال نوسطالجية حالمة، بقدر ما أنها سير ذهنية تخلص في الوفاء لعناصر الخصب داخل الحمولات الحضارية لذاكرة المكان، الشيء الذي انتبهت له الكثير من الأعمال الإبداعية التي اشتغلت على الموضوع بعد أن جعلته أرضية للتأمل وللاستثمار، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة من داخل المغرب ومن خارجه.
أقول هذا الكلام، وأنا أستحضر –على سبيل المثال لا الحصر- أشكال حضور مدينة القاهرة في أعمال نجيب محفوظ، أو فضاءات مدينة فاس في أعمال عبد الكريم غلاب، أو فضاءات مدينة أصيلا في أعمال أحمد عبد السلام البقالي، أو فضاءات مدينة الصويرة في أعمال إدمون عمران المالح،…
ـــ التاريخ توثيق للذاكرة، من هذا المنطلق، ماهي الأسس التي تنبني عليها فكرة كتابة التاريخ ؟ وهل كتابة التاريخ أمر سهل متيسر للجميع ؟
لا أعتقد أن الأمر كذلك، فالتاريخ لا يمكن أن يكون تدوينا تقنيا أو توثيقيا استنساخيا للوقائع الماضية، بقدر ما أنه صنعة مكتملة الأركان قائمة على مبادئ مهيكلة أهمها الزمان والمكان والإنسان، ومستندة إلى عدة منهجية واضحة أبرزها التجميع أو التوثيق ثم التفكيك والتحليل فالتركيب.
وعلى هذا الأساس، فعملية التوثيق لا يمكن أن تكون إلا حلقة فريدة في عملية بناء المادة التاريخية المستثمرة في الدراسة العلمية. ولعل هذا ما انتبه له المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون وهو يوضح –في مقدمته الشهيرة- على أن التاريخ علم “للنظر” و”للتدقيق”.
وبما أن الأمر كذلك، فقد أضحى مثيرا تطاول كتاب وباحثين من مجالات علمية مختلفة على هذا الحقل المعرفي، ليس بهدف النهل من نتائج درس التاريخ، ولكن –أساسا- من أجل التحول إلى مؤرخين مفترضين، يؤطرون نقاشات تاريخية ويخوضون في قضايا ماضية ويستخلصون ما يريدون استخلاصه من دون أي تسلح بالزاد المنهجي الضروري لهذا المجال.
لقد كان المؤرخ المغربي الراحل جرمان عياش محقا عندما صرخ في إحدى ندواته العلمية برحاب كلية الآداب بالرباط نهاية ثمانينيات القرن الماضي صيحته الشهيرة: “حذار من تاريخ لا يكتبه المؤرخون”. كما كان المفكر المغربي عبد الله العروي دقيقا وهو يميز في كتابه المؤسس “مفهوم التاريخ” بين ما سماه بوظيفة “الأراخ” وبين وظيفة المؤرخ.
فالأراخ الإسطوغرافي يظل مهووسا بالتجميع التقني وبالتدوين التحنيطي في ظل منطلقات تقليدانية تعيد كتابة النصوص والمدونات المتوارثة وفق رؤى دائرية في تتبع مسار نشأة الدول وتطورها وانهيارها…، تركيزا على الرصد الكرونولوجي الحلقي المتمركز حول سير الحاكمين والنخب وطبقات الأعيان ومجمل السلط المتحكمة في المسار العام لتطور الدولة والمجتمع محليا ووطنيا.
أما “التاريخ الآخر”، تاريخ الهامش، أو ما يسمى في بعض المدارس الغربية والعالمية بالتاريخ من أسفل أو بالتاريخ المنسي أو بتاريخ الحياة اليومية أو بمدرسة الحوليات أو بمدرسة الميكروتاريخ أو بمدرسة دراسات “التابع”، حيث حياة المجتمع الواقعة في ظل التطورات الكبرى للدولة المركزية، فيظل بعيدا عن مجال التداول، نظرا لأن “الأراخ” أو المؤرخ التقليداني يعتبره مجالا لأمور تقع في الهامش وقضايا من إنتاج “العامة”، لذلك فقد أضحى ينظر إليها بتبخيس كبير جعلها بدون أي قيمة تستحق أن تكون موضوعا للبحث وللتأمل وللاشتغال.
ـــ ما هي صفات المؤرخ الحق حسب تقديركم ؟
ليست هناك وصفة “إدارية” مرجعية تحدد صفات المؤرخ، وليست هناك ضوابط “حديدية” لرسم حدود صنعة كتابة التاريخ، بقدر ما أن ثمة ضوابط إجرائية متعارف عليها تجعل من المادة العلمية المحصل عليها، تكتسب قيمة محكمة يمكن الاعتماد عليها في الدراسة الأكاديمية التخصصية. تقوم هذه الضوابط الإجرائية على اختزال أدوات الدراسة، كل الأدوات، في نتائج الطفرات الهائلة التي يعرفها علم التاريخ خلال زماننا الحاضر.
في هذا الإطار، لا يكون للمؤرخ أي ولاء إلا لصدقية الضوابط الإجرائية العلمية المشار إليها أعلاه، وهي الضوابط التي تشكل ثورة معرفية ومنهجية داخل نسق اشتغال الكتابة الكلاسيكية الأرسطوغرافية في مستويات متداخلة، أبرزها الابتعاد عن الكتابة النزوعية التي تنتج مادة تحت الطلب لتوظيفها في مجال التدافع السياسي والمجتمعي والثقافي، وتوسيع مفهوم الوثيقة لتشمل الشواهد غير المدونة مثل التراث الرمزي الجماعي والمعتقدات الشعبية والإبداع الشفاهي والتعبير الإيقوني الفطري، ثم تحديث ذهنيات قراءة النصوص التاريخية عبر إخضاعها لأدوات النقد الداخلي والنقد الخارجي المتلازمين بشكل عضوي في أي قراءة للنصوص وللوثائق، والابتعاد عن تقديس الأموات للتخلص من سلطهم الرمزية التي تستغلها النخب لاكتساب الشرعيات أو لتبرير الإخفاقات أو لاختلاق الزعامات.
وقبل كل ذلك، أضحى علم التاريخ منفتحا على نتائج العلوم الأخرى وعلى عطاء الأعمال الإبداعية المدونة والشفاهية والتجسيدية على اختلاف أنواعها وعلى تعدد مصادرها. ونتيجة لذلك، بدأنا نسمع حديثا عن تاريخ السحر أو عن نظيمة الأحلام أو عن بنية الفقر أو عن قضايا الجنس… إلى غير ذلك من الاهتمامات التي لم تكن لتخطر –إطلاقا- في ذهن “الأراخ” التقليداني المهووس بالوقائع الحدثية وبسير الملوك والأمراء والنخب والسلط المتحكمة في الدولة والمجتمع. ونتيجة لهذه الطفرة المنهجية والمعرفية، أضحى علم التاريخ أكثر التحاما مع مجال العلوم الحقة أو الدقيقة، من دون أن يفقد هويته المميزة كأحد روافد العلوم الإنسانية الرحبة.
ـــ يشير الكثيرون إلى أن التاريخ في شموليته مزور، لكونه وارد من الغرب الكولونيالي، ومُصادَرٌ أحيانا أخرى لدى جهات معينة، مما يضفي عليه طابع الإبهام والغموض وربما التحريف، ويفضي إلى التشكيك. حدثنا عن وجهة نظركم؟
أفضل أن أتحدث عن التاريخ النزوعي عوضا عن التاريخ المزور. في هذا الباب، كان حقل التاريخ –دائما- مجالا للاستقطاب لتبرير السياسات والمواقف ولتدعيم أجنحة الصراع المجتمعي لأهداف تحكمية شتى. في هذا الإطار، يتحول المؤرخ إلى “موظف” أو إلى “كاتب عمومي”، وظيفته إنتاج نصوص تحت الطلب لإرضاء هذه الجهة أو تلك.
وعلى عكس ما أشرت إليه في سؤالك، فهذا التحريف لا يعود إلى المرحلة الكولونيالية فحسب، بل هو أبعد من ذلك بكثير، ونجد آثاره في مخلفات الأقدمين وفي كل المجتمعات البشرية، من هيرودوت إلى ابن خلدون، ومن بطليموس إلى الشريف الإدريسي، ومن سالوست إلى البكري…
وعلى كل حال، فالتوظيف النزوعي للتاريخ يظل أمرا متجددا بامتياز، ويجد تعبيرات عنه بأساليب شتى تجعل المؤرخ المتخصص يأخذ حذره الكامل في التعامل مع المضامين ومع طرق استثمارها.
ولعل في الرؤى المجددة المعتمدة في هذا الباب، دليل على أن حقل التاريخ أضحى قادرا على تحصين المادة المصدرية والوثائقية، في أفق تطويعها واستثمارها. في هذا الإطار، لم يعد المؤرخ المدقق يكتفي بالقول إن هذه المعطيات خاطئة وإن راويها أخطأ التقدير، بل أصبح يتجاوز هذه القراءة “السهلة” إلى طرح الأسئلة البديلة المهيكلة للقراءة النقدية، من قبيل طرح تساؤلات حول الأسباب والدوافع التي جعلت المؤرخ يسمح لنفسه بترديد وقائع مشكوك في صحتها أو خاطئة أو مختلقة، ثم تحريفها وتوجيهها وجهة نزوعية محضة بعد تعمد السكوت عن ما يناقضها. فالبحث في أسباب هذا الانحراف، يشكل –بدوره- مدخلا لدراسة تاريخ الذهنيات وللتوثيق لإواليات اشتغالها وتفاعلها مع وسطها الحي والمباشر.
ـــ برأيكم أستاذ أسامة، هل تنجح ترجمة النصوص التاريخية في تمرير المعلومة الصحيحة للمهتمين والباحثين ؟
أفضل عدم الحديث عن تمرير المعلومة الصحيحة، وتعويضها بتوفير المادة المصدرية والمرجعية والوثائقية التي ينهض عليها متن الدراسة. فلا أحد بإمكانه الحديث عن “المعلومة الصحيحة” قبل إخضاعها لقواعد النقدين الداخلي والخارجي المشار إليها أعلاه. ومعلوم أن هذه القواعد تنشغل بطرح السؤال أكثر من الجواب الجاهز، حيث يتحول السؤال –بدوره- إلى بؤرة لتوليد المعرفة ولتفجير طاقة النقد والتفكيك. فإذا كان النقد الداخلي يركز على إبراز تناقضات النص البنيوية، فإن النقد الخارجي يعيد توسيع مجال البحث بمقارنة المضامين مع باقي المصادر والوثائق وتنقيحها على ضوء النتائج المحصل عليها، من دون إغفال أي مادة مصدرية كيفما كان نوعها أو زمانها أو صاحبها.
أما بالنسبة للترجمة، فالمؤكد أنها تشكل عتبة رئيسية في الدراسات البيبليوغرافية التي تنهض عليها المادة التاريخية التي يتم توظيفها في البحث. لها ما لها وعليها ما عليها، شأنها في ذلك شأن جميع المظان والمصادر الأخرى الموظفة في الدراسة. وأكاد أجزم أن حقل الترجمة يظل حجر الأساس في جل ما كتب حول تاريخ المغرب، بما في ذلك الكتابات اللاتينية والرومانية والإغريقية القديمة، ثم الأعمال الإيبيرية الحديثة، فالدراسات الكولونيالية والمجددة، وأخيرا الكتابات ما بعد الكولونيالية المستثمرة لنتائج ما أضحى يعرف اليوم بالنقد الثقافي وبتاريخ الذهنيات والأفكار.
ولا يمكن –إطلاقا- إعادة كتابة تاريخ المغرب بدون العودة المتجددة للنهل من الرصيد الكولونيالي الذي أضحى “غنيمة حرب” على الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن طابعه الوظيفي الفاقع. فهل يمكن كتابة تاريخ المغرب بدون العودة المتجددة لتقليب مضامين سلسلة “المصادر الدفينة لتاريخ المغرب” التي أنجزها الكونت هنري دي كاستري، أو أعمال البعثة العلمية الفرنسية التي كان يشرف عليها رواد الاستكشاف العلمي الاستعماري الفرنسي ببلادنا خلال مطلع القرن الماضي، من أمثال ألفريد لوشاتليي وإدوارد ميشو بيلير وجورج سالمون؟
ــ باعتباركم من أنشط الباحثين في التاريخ المعاصر، ترى ما هي الاكراهات التي يعرفها الباحث في هذا التاريخ، إلى جانب قضايا التاريخ الراهن؟
لا شك أن الإكراهات تظل متعددة ومتداخلة، وهي من السمات المميزة للكتابة التاريخية التخصصية، من قبيل قلة المادة المصدرية وصعوبة الوصول إلى المادة الوثائقية الدفينة واستمرار إعراض قطاعات واسعة من المؤرخين المغاربة المعاصرين عن الانفتاح على التحولات المنهجية والمعرفية التي يعرفها علم التاريخ على الصعيد العالمي.
وفي نظري المتواضع، فإن أصعب ما يواجه الباحث المتخصص بهذا الخصوص، يظل مرتبطا بضغط المحيط والسلط وصانعي القرار من أجل إنتاج مادة موجهة، أو ما سميناه أعلاه، بمادة تحت الطلب لدواعي وظيفية فصلنا الحديث عن محدداتها وسياقاتها وأهدافها. وفي زماننا الراهن، أضحت كتابة المذكرات –مثلا- وسيلة يلجأ لها الفاعل السياسي من أجل ممارسة أقصى درجات الانزياح والغواية التي تجعل المؤرخ أمام مادة “مخدومة”، تتحول إلى سلطة فوق السلط، وإلى إطار مقدس يشكل المس بعناصره تهديدا لانسجام مجتمعي ومؤسساتي صوري يريح البعض ويلبي مقاصده، لكنه يقلق المؤرخ وينصب أمامه فخاخا عدة وعراقيل لا تحصى. ويزداد هذه البعد حدة، إذا استحضرنا كيف أن الكثير من قضايا التاريخ المعاصر والراهن لازالت حاضرة عبر تداعياتها المباشرة في واقعنا السياسي الحاضر، مما يخلق مشاكل جمة تنتصب أمام عمل المؤرخ النزيه وتقلص من آفاق البحث والتنقيب في وجهه.
ــ معروف أنكم تشتغلون بالإعلام الثقافي، سواء في جريدة “الشمال” الأسبوعية، أم في مجلة “رهانات” الثقافية، هل من تفاصيل عن هذه المجلة التي ترأسون تحريرها ؟
مجلة “رهانات” دورية ثقافية تصدر عن مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى الذي يوجد مقره بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-بن مسيك بالدار البيضاء. وهي منبر مستقل يضع من بين أهدافه الاشتغال على قضايا الانتقال الديمقراطي ببلادنا، وفق رؤى تأصيلية تجد منطلقاتها في حصيلة منجز البحث الأكاديمي الوطني الراهن، وذلك في مختلف حقول العلوم الإنسانية والقانونية، وعلى رأسها مجالات التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والنقد الثقافي والإبداع الأدبي والفقه الدستوري. وقد كان لي شرف رئاسة هيئة تحريرها لمدة زمنية لا بأس بها، لكن ضغط الالتزامات المهنية والثقافية جعلني عاجزا عن الاستمرار في هذه المهمة. لذلك، طلبت من إخواني داخل هيئة التحرير إعفائي من هذه المهمة، الأمر الذي رفضوه في البداية، قبل ان يقبلوا به في النهاية بعد إصراري وتمسكي بمبرراتي وبدوافعي في اتخاذ هذا القرار.
ـــ أصدرتم عدة كتب حوارية، نذكر منها: “مع الأديب أحمد عبد السلام البقالي: حوار السيرة والذاكرة”، وكتاب: “الدكتور عبد العزيز خلوق التمسماني: مسار مؤرخ وإشعاع سيرة ذهنية”. فماذا يمثل لكم الحوار من موقعه كقيمة ثقافية؟
الحوار الثقافي منبر مشرع بالنسبة للكتاب من أجل التواصل مع القراء، كما أنه وسيلة لاستنطاق الخبايا المسكوت عنها وكشف القضايا المغيبة داخل السير الذهنية للمبدعين والكتاب. ولقد خضت هذه التجربة مع علمين اثنين من رموز المشهد الثقافي والعلمي المغربي الراهن، هما الدكتور عبد العزيز خلوق التمسماني والمبدع أحمد عبد السلام البقالي، فكانت تجربة ممتعة أفادتني كثيرا في توسيع مجال اهتماماتي بالبحث في ذاكرة منطقة الشمال الثقافية والتاريخية.
وأعتقد أن صيغة الحوار، تظل أهم وسيلة بالنسبة للمتتبعين من أجل استكمال بناء الصورة النقدية أو التقييمية لحصيلة عطاء النخب المنتجة للأفكار وللإبداعات وللتمثلات. فعلى هامش رصيد المنجز، تكمن التفاصيل غير المعبر عنها والاستعارات المشخصنة للمواقف والاستيهامات الصانعة للتمثلات.
ويظل الكشف عن هذه العناصر من ثوابت الأدوات الحوارية المنقبة عن الجزئيات التي تنهض التجارب والمواقف والمبادرات عليها. وأعتقد أنك، أختي أسماء، قد حققت تراكما رائدا بهذا الخصوص، لا أملك إلا أن أحييك عليه وأن أنوه بنتائجه التي رأت النور عبر منشوراتك وإصداراتك الإلكترونية والورقية المسترسلة.
ـــ كتاب “أصيلا: حصيلة البحث التاريخي والأركيولوجي”، وكتاب “أصيلا: قراءات بيبليوغرافية تصنيفية”، يعدان من الكتب المهمة المعتمدة لدى المهتمين بالبحث المونوغرافي. فما الباعث وراء تأليفهما؟ وماهي الخلاصات التي جاء بها الكتابان؟
الكتابان ثمرة جهد ممتد في الزمن، شغفت خلاله بالبحث في تحولات ماضي مدينة أصيلا كثمرة اهتمامات أكاديمية خاصة. وقد اتضح لي بعد الخوض في غمار هذا المشروع، أنه لا مجال لكتابة تاريخ المدينة قبل إنجاز التصنيفات البيبليوغرافية الضرورية، قصد توفير المادة المصدرية الموجهة للبحث واختبار العدة المنهجية العلمية في قراءة النصوص والوثائق وتحليلها واستثمارها في الدراسات المونوغرافية والقطاعية المتخصصة. وقد صدر الكتاب الأول سنة 2007، مقدما جردا بيبليوغرافيا عاما لحصيلة البحث في تاريخ مدينة أصيلا، موزعا عبر فصول موضوعاتية متكاملة من الناحية الكرونولوجية باللغة العربية وباللغات الأجنبية التي كتبت بها العديد من الدراسات الخاصة بماضي أصيلا.
وبعد عشر سنوات على صدور هذا الكتاب، أصدرت الكتاب الثاني، مستفيدا من ملاحظات العديد من القراء والمهتمين، ومقدما رؤية جديدة تقوم على تجاوز منطق التجميع الكمي إلى تقديم قراءات تركيبية في المضامين وترجمة الخلاصات وتوسيع مجال التنقيب بالانفتاح على الكتابات الأدبية والأعمال التشكيلية والتراث الشفاهي المحلي والصحافة المحلية، إلى غير ذلك من المواد التي أضحت زادا لابد منه للاشتغال بالنسبة للمؤرخ المتخصص، حسبما أوضحت سياقاته العلمية المنهجية أعلاه.
ـــ تربطكم بالكتاب علاقة وطيدة، ويسجل لكم الاحتفاء بالابداعات والمبدعين (سلسلة “كتابات في تاريخ منطقة الشمال” التي تنشر على صفحات جريدة “الشمال” أسبوعيا)، في وقت تشهد الساحة الثقافية شحا كبيرا على مستوى اهتمام المثقفين بمبدعي مدنهم وإصداراتهم. من أين استلهمتم هذه الروح الطيبة المنفتحة بمسؤولية وموضوعية نادرتين؟
أعتقد أن احتفاءنا بالإصدارات الجديدة يشكل أبسط تعبير عن امتنانا وعن تقديرنا للجهد الذي يبذله الكتاب في إنتاجهم للمعرفة. ليست هناك مهنة أصعب من مهنة إنتاج المعرفة، فكيف لا نقدر لأصحابها جهدهم؟ لا شك أن تجاهلنا لهذا المجال يشكل عنوانا لسقوط حضاري خطير انحدر إليه مجتمعنا المعاصر.
أضف إلى ذلك، أنه لا يمكن مجاراة مجال التخصص العلمي، بدون اكتساب القدرة على مسايرة “الجديد”، بغض النظر عن قيمة المضامين وعن تباين مستوياتها الفكرية والتعبيرية والجمالية. وحدها الكتابات النقدية المتخصصة قادرة على إنجاز فعل الغربلة الضروري. أما مسؤولية المتلقي، فتنحصر في التفاعل المباشر مع ما تفرزه سوق النشر والكتاب. ويمكنكم إجراء المقارنات الضرورية بين ما تعرفه الساحة الثقافية بالدول الأوربية في سياق مواكبتها “للجديد”، وبين واقعنا البئيس الذي يثير الأسى في النفوس ويساهم في إحباط عزيمة الكاتب وفي تعميم حالة اليأس العقيم لدى كل المتدخلين في صناعة الكتاب وترويجه.
وبمناسبة إشارتكم لسلسلة “كتابات في تاريخ منطقة الشمال”، فقد انطلقت التجربة سنة 2001، بعد أن اقترحت الأمر على الإعلامي الصديق الراحل خالد مشبال الذي رحب بالفكرة وشجعني على المضي فيها، فقررت خوض التجربة. ومع مرور الوقت، اكتشفت رحابة المجال ومتعه اللامتناهية خاصة بعد أن تحولت هذه الزاوية إلى منبري الشخصي لتخصيب اهتماماتي العلمية بالبحث في تاريخ منطقة الشمال. وأنا الآن منكب على تجميع هذه المواد وعلى تنقيحها قصد إصدارها في أعمال تجميعية قادمة بحول الله.
ـــ تحدثتم عن مركز مدى للدراسات والأبحاث الإنسانية، ماذا عن مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، التي تساهمون في أنشطتها العلمية ؟
مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، إطار مدني رأى النور سنة 2000، بمبادرة من لفيف من رجالات المقاومة والعمل الوطني والإعلامي والأكاديمي والثقافي المغربي الراهن. وقد استطاعت هذه المؤسسة أن تتحول في ظرف زمني قياسي إلى واحدة من بين أهم الإطارات المدنية المشتغلة على قضايا حركة المقاومة المغربية ضد الاستعمار، ليس فقط في مجال تأطير البحث الأكاديمي المتخصص، ولكن كذلك في مجمل مجالات التوظيف الإبداعي والإعلامي لتراث المقاومة المسلحة والحركة الوطنية التي واجهت مشاريع التدجين الاستعماري الذي تعرضت له بلادنا خلال النصف الأول من القرن 20.
ـــ تاريخ المغرب غني بالأمجاد والبطولات، وتبقى معركة القصر الكبير (وادي المخازن) واحدة من أشهر المعارك التاريخية، التي لها حمولة ثقافية وتاريخية وازنة، بالرغم من أنها لم تمرر بالشكل المطلوب إلى الأجيال الصاعدة للاستيعاب والاعتبار المطلوبين. بإيجاز، ماهي العبر التي يمكن استخلاصها من هذه المعركة؟
هي معركة الكرامة التي حمت المغرب من احتلال إيبيري جارف كان يتهدد البلاد والعباد خلال القرنين 15 و16 الميلاديين. لنتصور لو أن دولة البرتغال نجحت في الانتصار في هذه المعركة، أكيد أن الطريق نحو العاصمة فاس كان سيصبح مفتوحا أمام الملك دون سباستيان وقواته. إنها قلعة القصر الكبير التي اجتمع حولها أحرار المغرب سنة 1578 من أجل، ليس فقط التصدي للغزو العسكري البرتغالي، ولكن –أساسا- لدعم سيادة المغرب وترسيخ قواعد دولته المركزية القوية. لذلك، حق علينا اعتبار المعركة ميلادا جديدا للدولة المغربية وانبعاثا لمعالم سيادتها تحت يافطة السلالة السعدية. وبالنسبة للمخيال الجماعي البرتغالي الراهن، تظل معركة وادي المخازن عنوانا لانكسار الحلم الكولونيالي الذي أطرته سياقات المد الميركنتيلي بأوربا خلال القرن 15م، بعد أن تحول إلى نقطة الارتكاز في مسار بناء الدول الوطنية الأوربية الحديثة، القوية والناهضة.
ـــ ودعنا أخيرا واحدا من رجالات التاريخ القصريين، ألا وهو الأستاذ الفقيد محمد بنخليفة رحمه الله، ما كلمتكم في حق الرجل؟
يظل الفقيد محمد بنخليفة أحد الوجوه الثقافية المميزة لبهاء وجه مدينة القصر الكبير الحضاري. فالرجل من طينة نادرة، كان له دور بارز في الاحتفاء بمعالم توهج ماضي مدينة القصر الكبير العريق.
تعود معرفتي به إلى حوالي ثلاثين سنة عبر صديقنا المشترك الأستاذ محمد أخريف في إطار اهتمامات ثقافية مشتركة داخل جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير. وفي كل مرة كنت أعود فيها لأعمال هذا الفقيد الكبير، كنت أكتشف معدن الرجل، إنسانا متواضعا، وباحثا منقبا، ومثقفا غيورا، رحمه الله تعالى وأكرم ومثواه. إنها سيرة البهاء تمشي على الأرض، ولعل هذا ما يحفز نخب مدينة القصر الكبير على الإسراع باتخاذ مبادرة تكريم الفقيد بنخليفة بكل ما يستحقه من تقدير ومن تبجيل ومن إكرام.
ـــ هل لنا أن نعرف مشاريعكم المقبلة في ميدان البحث التاريخي بحول الله؟
أنا الآن متفرغ لإنجاز الجزء الثاني من كتاب “أصيلا: دراسات بيبليوغرافية تصنيفية”، إلى جانب كتاب بيبليوغرافي تجميعي حول المصادر العربية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية الخاصة بعموم منطقة الشمال. هي أعمال أسعى من خلالها إلى إثارة الانتباه إلى ذخائر منطقة الشمال وإلى دورها في ترصيص الهوية الجماعية لمغاربة الزمن الراهن. هي أعمال لإنصاف الذاكرة المشتركة قصد الإسهام الجزئي في التأصيل لشروط النهوض المعرفي والثقافي المنشود.
ـــ كلمتكم الختامية في هذا اللقاء ؟
أتقدم إليك شخصيا بكل عبارات الشكر والتقدير على مجهوداتك الرائعة التي تقومين بها من أجل الاحتفاء بذاكرة مدينة القصر الكبير وعموم منطقة الشمال. أشكرك على مثابرتك لتطوير تجربتك من خلال الانتقال إلى خوض غمار النشر الورقي بإصدارك لكتاب “مكاشفات”، مما يفتح بارقة الأمل أمام الفاعلين المحليين في المجالات الإعلامية والثقافية، ويدفع في اتجاه تطوير التجربة والارتقاء بها، بحثا عن معالم السمو والرقي داخل مكونات هويتنا التاريخية المشتركة، اليوم وغدا.